الثلاثاء 25 تشرين ثاني , 2025 03:38

المعركة مستمرة: لماذا يضاعف العدو جهده الاستخباري رغم وقف إطلاق النار؟

غزة وطائرة مسيرة

على الرغم من مرور أكثر من أربعين يوماً على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن السماء فوقه تُدار كما لو أن الحرب لم تتوقف، وكأن العدوان اتخذ لنفسه شكلاً آخر: حرب من دون ضجيج، بلا دبابات تُرى، لكن بآلة استخبارية كثيفة وحاضرة على مدار الساعة. إنّ قراءة هذا المشهد، في ضوء التجربة الطويلة للاستعمار الحديث، تكشف أن وقف إطلاق النار – كما يحلو للدبلوماسية الغربية تسميته – لا يُعدو كونه إعادة تشكيل لأدوات السيطرة لا أكثر.

فالاستعمار في نسخته الجديدة لا يتوقف عند حدود العمليات العسكرية، بل يتجدّد ويتكثّف عبر البنية الاستخبارية، عبر الرصد والتجسّس والتحكّم، وعبر إحكام السيطرة على المجال الجوي والمعلوماتي والبشري. وهنا، يبدو قطاع غزة المثال الأوضح على هذه القاعدة: توقف المعركة الميدانية لا يعني توقف الحرب، بل يعني انتقالها إلى شكل أكثر "نظافة" في الخطاب الغربي، وأكثر فتكاً في الواقع.

هذه القراءة تنطلق من خمس نقاط أساسية: الأطراف المشاركة في هذا الجهد، أدواته، توقيتاته، جغرافيته، وأهدافه القصيرة والبعيدة. لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى مسألة جوهرية: أنّ الجهد الاستخباري "الإسرائيلي" ـ الأميركي ـ البريطاني في غزة ليس مجرد عملية عسكرية تقنية، بل يشكّل جزءاً من بنية الهيمنة الغربية على الشعوب الضعيفة، وهو استمرار لسياسة تقوم على فكرة أن الأمن الإسرائيلي يتقدّم على حياة شعبٍ بأكمله.

وفي هذا السياق، يصبح السؤال المركزي: لماذا يضاعف العدو هذا الجهد رغم وقف إطلاق النار؟ الجواب يحتاج إلى تفكيك متعدّد المستويات.

الأطراف المشاركة… ائتلاف الاستخبارات في خدمة السيطرة

إنّ أجهزة الأمن "الإسرائيلية" ليست وحدها في السماء. فالمشهد الاستخباري الراهن يعكس تحالفاً غربياً صريحاً: طائرات أميركية من طراز MQ-9، وطائرات بريطانية من طراز Shadow R1، ومراكز مراقبة مرتبطة مباشرة بوحدة التجسّس المتقدّمة في كريات جات.

تُقدّم واشنطن مساهمتها تحت عنوان "مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار"، بينما تؤدي لندن الدور نفسه تحت ذريعة "متابعة ملف الأسرى"، لكن كلا العنوانين لا يعدوان عن كونهما إعادة إنتاج للخطاب نفسه الذي رافق معظم الحروب الغربية منذ الاحتلال الأميركي للعراق: مبرّرات إنسانية تغطّي عمليات استخبارية ذات أهداف سياسية عميقة.

هذا ليس سوى إعادة تدوير للبنية الاستعمارية التي لطالما قدّمت تدخلاتها باعتبارها لأهداف "أخلاقية" أو "رقابية"، فيما الحقيقة أنّ هذه القوى تمارس وظيفة تقليدية: حماية النظام الذي يخدم مصالحها، وضمان بقاء الشرق الأوسط في حالة تعطّل ذاتي دائم.

اللافت أنّ مساهمة الاستخبارات الأميركية والبريطانية باتت علنية، وربما للمرة الأولى بهذا الوضوح. وهو ما يشير إلى أن ما يجري ليس مجرد دعمٍ عابر لـ"إسرائيل"، بل هو دمج عميق يتجاوز زمن الحرب إلى ما بعدها، باعتبار غزة "منطقة اختبار" لأنظمة الرقابة المتقدّمة.

الأدوات… التفوّق التقني كجوهر الهيمنة

تستخدم "إسرائيل" طائرات هيرمس 450 وهيرمس 900 وهيرون، وهي المسيّرات التي اختُبرت عملياً في غزة خلال السنوات الماضية، وصارت جزءاً من "اقتصاد تصدير السلاح" "الإسرائيلي"، حيث تُباع للأسواق العالمية باعتبارها "مجرّبة ميدانياً".

هنا، يظهر أحد أهم الأبعاد البنيوية في المشروع الاستخباري: غزة ليست فقط ساحة حرب، بل سوق اختبار. وهذا ما يجعل استمرار التحليق بعد الهدنة أمراً منطقياً بالنسبة للمنظومة "العسكرية الإسرائيلية": فكل ساعة طيران توفر بيانات تُستخدم لتطوير هذه الصناعات.

الأدوات الأخرى لا تقل خطورة: التجسّس الإلكتروني، اختراق الهواتف المحمولة، اعتراض المكالمات والرسائل والبيانات، والاختراق البشري عبر العملاء.

وإذا كان الاحتلال قد عانى قبل 2023 من تراجع الاستخبارات البشرية في غزة، فإن وقف إطلاق النار كان فرصة لإعادة تشغيل هذه القنوات، مستغلاً الظروف المعيشية القاسية التي تخنق السكان، تماماً كما استخدم الاحتلال "البعد الاقتصادي" خلال العقود الماضية لخلق تبعية تُحوّل الحاجة إلى أداة سيطرة. بهذا المعنى، الجهد الاستخباري لا يعمل فقط كأداة عسكرية، بل كمنظومة شاملة تستهدف المجتمع الفلسطيني بكامله، وتعيد تشكيل علاقته بذاته وببيئته وبمقاومته.

التوقيتات… زمن الهدنة هو زمن الفرص الذهبية

تُظهر مراقبة التحليق أن "إسرائيل" لا تتعامل مع وقف إطلاق النار كاستراحة، بل كمرحلة حساسة تتطلّب تعزيز الحضور الاستخباري، لا تقليصه. فخلال ساعات الصباح وحتى ما بعد العصر، ينخفض التحليق للاقتراب من الأرض ورصد الحركة المدنية والمقاومة معاً، ثم يرتفع ليلاً لالتقاط الإشارات الرقمية ورصد الهواتف.

هذا النمط الزمني يشبه ما تقوم به القوى الاستعمارية عادة في فترات "التهدئة" أو "الإدارة المدنية"، إذ يتم الاستثمار في اللحظات التي يفترض أنها لحظات تنفّس للشعوب المحاصرة، للقيام بالضبط بعمليات جمع البيانات التي لم تكن ممكنة أثناء المعارك. في ساعات الليل، عندما يعود الناس إلى مخيّمات الإيواء أو خرائب بيوتهم، تُفعّل "إسرائيل" آلياتها لفرز أنماط الحركة وتحديد مواقع المقاتلين. إنها محاولة لإعادة بناء "خريطة الوجود البشري" في غزة. وهذا بحد ذاته يفضح كذبة وقف إطلاق النار: فالعدوان مستمر، لكن عبر أدوات أخرى.

الجغرافيا… السيطرة على المكان بوصفها سيطرة على المجتمع

تغطي المسيّرات كل القطاع: غزة المدينة، خان يونس، الوسطى، المخيمات، الحدود الشرقية والشمالية. لكن المناطق الأكثر كثافة هي التي ينظر إليها الاحتلال باعتبارها "مخازن بشرية" للمقاومة، وفق منطقه الأمني العنصري: غزة المدينة، خان يونس، النصيرات، ومحيط الخط الأصفر.

هذا التوزيع ليس عشوائياً، بل يعكس ما قلنا عنه سابقاً بالـ "الهندسة الجغرافية للسيطرة": تحديد النقاط التي يُنظر إليها باعتبارها الأكثر قدرة على إنتاج الفعل المقاوم، ثم خنقها عبر المراقبة الدائمة. كما أنّ تحليق الطائرات بشكل عرضي على طول الحدود يعكس خوف الاحتلال العميق من انهيار نظام السيطرة على المنطقة الصفراء.

إنها لحظة نموذجية لفهم عقل الاحتلال: حتى بعد حرب مدمّرة، وحتى بعد تهجير ملايين، وحتى بعد وقف إطلاق نار، تبقى الهشاشة الوجودية هي المحرك المركزي لسلوكه.

الأهداف… لماذا يتضاعف الجهد الآن؟

تحديث بنك الأهداف

تعرّض بنك الأهداف "الإسرائيلي" لضربة كبيرة خلال الحرب، نتيجة قدرات المقاومة على التخفّي وتضليل المراقبة الجوية. الهدنة توفر فرصة ذهبية لإعادة ملء هذا البنك: عبر الهواتف، تحركات الناس، عودة القادة الميدانيين إلى التواصل، وإعادة فتح بعض المساجد والمراكز.

التحضير لعمليات اغتيال جديدة

عمليات الاغتيال الأخيرة التي طالت قادة أثناء تحركهم في سياراتهم أو في مواقع ثابتة، ليست سوى نتيجة مباشرة لهذا الجهد المضاعف. الاحتلال يرى في الهدنة مرحلة مناسبة للإطباق على أهدافه البشرية، عبر تحليق دائري ومنخفض، وهو نمط معروف في تكتيكات الاغتيال.

الضغط النفسي المستدام على المجتمع

إبقاء غزة تحت سماء مزدحمة بالطائرات هو جزء من استراتيجية طويلة تهدف إلى منع الفلسطينيين من العودة إلى حياتهم الطبيعية، وإبقاء المجتمع في حالة "صدمة ممتدة".

منع إعادة تنظيم المقاومة

تخشى "إسرائيل" من أن الهدنة قد تسمح للمقاومة بترميم شبكاتها، تنظيمها، وتوزيعها الجديد.

التحليق الكثيف يرصد أي عملية إعادة بناء، ويستهدفها عند الضرورة.

التحضير للمرحلة التالية من الاتفاق – أو إفشاله

الاحتلال يريد أن يدخل مراحل الاتفاق الثانية والثالثة وهو في موقع تفوّق استخباري مطلق، أو أن يمتلك القدرة على نسف المفاوضات في اللحظة التي يريد.

والاستعداد لعدوان مقبل؛ هذا هو الهدف الأخطر، فإسرائيل تتعامل مع وقف إطلاق النار كفاصل بين جولة وأخرى، وليس كنهاية للحرب.

المعركة مستمرة… وإن تغيّرت وسائلها

ما يجري في غزة اليوم ليس نشاطاً استخبارياً معزولاً، بل هو جزء من منظومة عالمية تحكمها قواعد واضحة: التفوّق التقني يغطي فشل المشروع السياسي، والهيمنة الاستخبارية تحل محل العجز العسكري، والاستعمار يعيد إنتاج نفسه عبر أدوات مراقبة شاملة.

المعركة مستمرة…

ليس لأن "إسرائيل" تريد ذلك فقط، بل لأنها تدرك أن المقاومة لم تُهزم، وأن الشعب الذي صمد أكثر من سبعين عاماً لن يتراجع، مهما حلّقت الطائرات فوقه.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور