 
                                            في عالم تُصاغ فيه الحقيقة على ألسنة المنتصرين، تبدو غزة مرة أخرى مساحةً يتقاطع فيها الوهم الإنساني مع حسابات القوة. فبعد عامين من الحرب المدمّرة، وُقِّعت هدنةٌ جديدة تُقدَّم للرأي العام بوصفها خطوة نحو الاستقرار. لكنها، في جوهرها، ليست سوى استراحة مؤقتة في حربٍ طويلة تُدار بالتحكم الأميركي وتُنفّذ بالأدوات "الإسرائيلية". الهدنة ليست نهاية الحرب، بل إعادة إنتاجها في صيغة أكثر تعقيدًا، وأكثر قبولًا لدى المجتمع الدولي المرهق من مشاهد الدمار، لكنه غير مستعد بعد للاعتراف بجذور المأساة.
في ضوء هذه المعادلة المزدوجة، يمكن قراءة مصير الصراع في غزة من خلال خمس زوايا مترابطة، تُظهر كيف تحوّل "السلام" إلى أداة لإدامة الاحتلال، وكيف صار "وقف إطلاق النار" عنوانًا آخر لاستمرار السيطرة بوسائل أكثر نُعومة.
القراءة الأولى: هدنة تحت وصاية القوة
لم تكن الهدنة ثمرة توازن عادل بين طرفين متحاربين، بل نتيجة ضغط خارجي صريح، خصوصًا من إدارة دونالد ترامب، التي قدّمت اتفاق النقاط العشرين بوصفه "خريطة طريق للسلام"، بينما كان في الواقع مشروعًا لضبط سلوك المقاومة الفلسطينية ضمن حدودٍ تسمح لإسرائيل بالحفاظ على تفوقها العسكري والاقتصادي.
فالولايات المتحدة لم تتراجع عن دعمها لإسرائيل، لكنها غيّرت أدواتها. إنها تُمارس الآن شكلًا جديدًا من السيطرة: لا احتلالًا مباشرًا، بل "إدارة للأزمة" تضمن بقاء ميزان القوى مختلًا. وهذا هو جوهر ما يسميه إيمانويل تود دائمًا بـ "نظام الطاعة" الذي يُفرَض على الأطراف الضعيفة تحت غطاء الدبلوماسية. الهدنة، من هذا المنظور، ليست سوى تجميد للصراع بما يخدم الطرف الأقوى، وليست خطوة نحو العدالة أو الاستقلال.
القراءة الثانية: "إسرائيل" وتكتيك الحرب المستمرة
"إسرائيل" لا تُوقّع اتفاقات لتلتزم بها، بل لتُعيد ترتيب شروط المواجهة. القصف المحدود بعد الهدنة ليس "خرقًا عرضيًا"، بل سياسة مدروسة لتثبيت ما يسميه الإعلام "الإسرائيلي" بـ "الحرية العملياتية" — الحق في شن هجمات متى شاءت بحجة "الردع".
هذه الاستراتيجية تذكّر بالنموذج اللبناني الذي استُخدم بعد حرب تموز 2006 وأيضًا بعد حرب 2024، حين اعتبرت "إسرائيل" أن الردع لا يعني السلام، بل القدرة على الضرب من دون إعلان الحرب. وهكذا، تسعى تل أبيب إلى تحويل غزة إلى مختبر دائم لسياسة "التحكم بالحد الأدنى من التوتر"، حيث تبقى الحرب مفتوحة ولكن منضبطة، بلا نصر ولا هزيمة، بل استنزاف طويل الأمد للإنسان الفلسطيني والبنية المقاومة.
القراءة الثالثة: الهدنة كأداة سياسية داخل "إسرائيل"
داخليًا، تعكس الهدنة أزمة بنيوية في السياسة "الإسرائيلية". فنتنياهو الذي دخل الحرب تحت شعار "القضاء على حماس"، خرج منها باتفاق هدنة صاغته واشنطن، ما جعله هدفًا لغضب اليمين المتشدد. القصف المحدود بعد الهدنة ليس فقط تصعيدًا ضد غزة، بل رسالة موجهة إلى الداخل "الإسرائيلي": "أنا ما زلت أتحكم بالميدان."
إنها محاولة لتثبيت صورة الزعيم "القوي" بعد أن كشفت الحرب هشاشته السياسية والأخلاقية. فاستطلاعات الرأي تُظهر أن أغلبية "الإسرائيليين" يرون في الحكومة فشلًا استراتيجيًا، وأن 67% يطالبون بلجنة تحقيق في إدارة الحرب. في هذا السياق، يصبح القصف وسيلة لتعويض الفشل الرمزي، ولإعادة إنتاج "العدو" بوصفه ضرورة وجودية توحّد الداخل "الإسرائيلي" المتصدّع.
القراءة الرابعة: المقاومة بين الصبر الاستراتيجي وحق الردّ
على الجانب الفلسطيني، تدرك المقاومة أن قبول الهدنة لا يعني الاستسلام، بل إعادة ترتيب الأولويات. فالحرب الشاملة كانت تهديدًا وجوديًا لشعب غزة، والهدنة — رغم هشاشتها — منحت الفلسطينيين فرصة لإعادة التقاط الأنفاس ومنع التهجير الجماعي.
لكن المقاومة اليوم تخوض معركة جديدة: معركة تثبيت الردع ضمن شروط متغيرة. فهي تمارس ما يمكن تسميته بـ "الصبر الاستراتيجي"، أي الامتناع عن الرد الفوري على كل خرق "إسرائيلي" لتجنّب الحرب الشاملة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على توازن الرعب عبر عمليات محدودة أو رسائل ميدانية غير مباشرة. إنها معادلة صعبة: كيف تردّ دون أن تُستدرَج؟ وكيف تثبت حضورك دون أن تمنح العدو ذريعة؟
هذه الدينامية تعيدنا إلى مفهوم "المقاومة الذكية"، التي لا تقيس قوتها بعدد الصواريخ، بل بقدرتها على كسر الهيمنة السياسية والإعلامية. فالمقاومة اليوم لا تقاتل فقط في الميدان، بل في الخطاب الدولي، في مواجهة منظومة إعلامية تصوغ تعريف "العنف" بما يتناسب مع مصالح الغرب.
القراءة الخامسة: الغرب بين تواطؤ الصمت وانكشاف الأخلاق
الهدنة الحالية كشفت أيضًا مأزق الغرب الأخلاقي. فالدول التي قدّمت نفسها حاميةً لحقوق الإنسان، وقفت عاجزة — أو بالأحرى غير راغبة — في محاسبة "إسرائيل" على جرائم الحرب. هذا الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة ضمنية في استمرار المأساة.
أوروبا والولايات المتحدة تتحدثان عن "التهدئة" بينما تُموّلان آلة القتل ذاتها. إنهما تسعيان إلى "استقرار مُصنّع" يضمن أمن "إسرائيل" لا أمن الفلسطينيين، ويحوّل غزة إلى نموذج للردع الجماعي الذي يُدار عن بُعد. بذلك، يتحقق ما يسميه تشومسكي "الإرهاب المُشرعن"، استخدام العنف باسم القانون، وإسكات الضحايا باسم السلام.
لكن هذا التواطؤ لم يعد مطلقًا. فالرأي العام الغربي بدأ يشهد تحوّلًا بطيئًا، إذ صار يرى في فلسطين مرآةً لفساد النظام الدولي نفسه. من الجامعات الأميركية إلى الشوارع الأوروبية، يتكوّن وعي جديد يدرك أن "الهدنة" ليست سوى ستار يُخفي نظامًا من القهر الاستعماري المتجدد.
في النهاية، لن يُحدّد مصير غزة في القصور السياسية ولا في غرف التفاوض المغلقة، بل في قدرة الفلسطينيين على تحويل البقاء نفسه إلى فعل مقاومة، وعلى إعادة تعريف النصر في وجه منظومةٍ تعتبر مجرد صمودهم هزيمة لها. "حين تصبح الحقيقة عملًا مقاومًا، يصبح الصمت تواطؤًا."
غزة بعد الهدنة ليست في سلام، بل في لحظة اختبار للإنسانية جمعاء. إنها تذكّر العالم أن العدالة لا تُوقَّع في الاتفاقات، بل تُنتَزع في ساحات الوعي والموقف.
 
                            كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com