في لحظة تاريخية فارقة يشهد فيها العالم تسارعاً غير مسبوق، في وتيرة التحولات الجيوسياسية، وارتسام ملامح نظام دولي جديد يتشكّل عبر موجات متلاحقة من الاضطراب والصدمات. فإن المشهد الدولي الراهن لا يمكن فهمه من خلال مقولات "الفوضى العشوائية" أو "الأزمات الطارئة"، بل من خلال منظور أشمل يرى أن الاضطراب لم يعد مجرد نتيجة جانبية للصراعات، بل أداة فعّالة تُستخدم في هندسة النظام العالمي وإعادة ترتيبه. فمع تجاوز الإنفاق العسكري العالمي 2.7 تريليون دولار، واشتغال ما يزيد عن 60 صراعاً مسلحاً في ثلاث قارات، واتساع رقعة التفكك السياسي حتى داخل قلب مجموعة السبع، يبدو أن العالم يدخل مرحلة انتقالية تتجاوز في عمقها وخطورتها ما شهدته العقود الماضية.
تقوم الدراسة على تحليل هذا التحول البنيوي عبر تتبع جذوره وآلياته وأدواته، بالاستناد إلى مفهوم "عقيدة الصدمة" التي لم تعد إطاراً نظرياً لمرحلة ما بعد الكوارث، بل أصبحت منهجاً لتوجيه السياسات، واستراتيجية لإدارة الاضطراب واستثماره. فالغرب، وبخاصة القوى النيوليبرالية والمحافظين الجدد، لم يعد يتعامل مع الصدمات بوصفها مخاطر يجب الحد منها، بل باعتبارها فرصاً لإعادة بناء النظام وفق مصالحه، سواء من خلال "الفوضى الخلّاقة" في الشرق الأوسط، أو عبر هندسة أزمات كبرى كما ظهر في حرب أوكرانيا وما نجم عنها من إعادة تشكيل لسوق الطاقة العالمي وتغذية المجمع العسكري–الصناعي الأميركي بمعدلات غير مسبوقة.
وإذا كانت "عقيدة الصدمة" هي البرنامج الاقتصادي لإدارة التغيير، فإن "الفوضى الخلّاقة" هي الأداة الجيوسياسية لتنفيذه. وهذا المفهوم، المرتبط غالباً بالمحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية، تم إدخاله العلن من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، التي وصفت العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 بأنه "آلام المخاض لشرق أوسط جديد". هذا التصريح لم يكن مجرد استعارة بلاغية، بل كان انعكاساً لعقيدة استراتيجية منطقها الأساس هو أن "القوة الحقيقية لا يمكن ممارستها من خلال البقاء في الوضع الراهن، ولكن... في تدمير جميع أشكال المقاومة".
بناءً على هذا التشابك المعقد في المنطقة، فإن "جبهة المقاومة" تواجه وضعاً يتطلب تحولاً استراتيجياً في التفكير، والانتقال من عقيدة "الانتصار" إلى عقيدة "الردع". وذلك من خلال تبني "سؤال استراتيجي صحيح": فبدلاً من طرح سؤال: "هل نستطيع الانتصار عليهم؟"، وهو سؤال تعجيزي لا يؤدي إلا الى الاستسلام، يجب استبدال هذا السؤال بـ "السؤال الصحيح": "هل نستطيع أن نجعل خسائرهم أكبر من أرباحهم؟". وبذلك يتحول الهدف الاستراتيجي من ضرورة "هزيمة" التحالف الجديد، إلى ضرورة "ردعه"، ومن ثم يجب أن تتحول العقيدة بأكملها من "الانتصار" إلى "جعل محصول العدو من الحرب سالباً".
لتحميل الدراسة
الكاتب: غرفة التحرير