اعتمد مجلس الأمن القرار 2803 في 17 نوفمبر 2025، مانحاً تفويضاً دولياً لتشكيل قوة استقرار مؤقتة في غزة، وإنشاء مجلس سلام يقوم بإدارة المرحلة الانتقالية وإعادة الإعمار. هذا القرار لم يكن مجرد إجراء إداري، بل يعكس تحولاً في المقاربة الدولية تجاه غزة، وتحولاً من التعامل مع القطاع كمنطقة حصار وصراع مسلح، إلى حرص أكبر على تنظيم إدارة ما بعد الحرب بشكل مُراقب دولياً. القرار قُدّم باعتباره خطوة لخفض التوتر وتحقيق الاستقرار، لكنه من جهة أخرى يحمل ملامح وصاية مؤقتة تُخضع غزة لإدارة مشتركة ذات طبيعة دولية، تقودها الولايات المتحدة عبر مبادرتها السابقة ذات 20 بنداً.
حصل القرار على تأييد 13 صوتاً وامتناع روسيا والصين، اللتين عبّرتا عن تحفظات بخصوص الخطورة المحتملة على السيادة الفلسطينية. الالتفاف الدولي الواسع حول القرار منح واشنطن مساحة أوسع لتقويض أي تمثيل فلسطيني مقاوم، وتمرير نموذج إدارة انتقالية تقيد الأطراف المحلية وتدفع باتجاه إعادة هندسة البيئة السياسية والأمنية في غزة لصالح التوجهات الغربية–الإسرائيلية. في المقابل، رفضت فصائل المقاومة – وعلى رأسها حماس – صيغة التفويض الدولي بحد ذاته، معتبرة أنه يكرس مرحلة وصاية أجنبية تُقصي الحق الفلسطيني الفعلي في إدارة شؤونه.
من المنظور القانوني، لا يستند القرار إلى الفصل السابع، ولا يفرض عقوبات أو آليات إلزامية صارمة، مما يجعله أقرب إلى توصية منه إلى فرض قانوني قاطع. هذا يمنح الكيان الإسرائيلي مساحة مراوغة واسعة، ويضعف المساءلة ويترك النص مفتوحاً أمام التفسيرات. كما أن مقتضياته لا تتضمن إدانة واضحة للانتهاكات الإسرائيلية السابقة أو المطالبة بمحاسبتها، ما يعني عملياً منح تل أبيب غطاءً قانونياً مؤقتاً من المحاسبة الأممية. إضافة إلى ذلك، إن صيغة "المسار المحتمل للدولة الفلسطينية مستقبلاً" تضع حق تقرير المصير في موقع مؤجل أو مُعلّق، بدلاً من اعتباره مبدأ واجب التنفيذ.
من الناحية الاستراتيجية، يتوافق القرار مع عدة أهداف إسرائيلية مزمنة. أولها الحد من قدرات المقاومة عبر نزع السلاح غير الحكومي، بواسطة قوة دولية تعمل تحت عباءة "ضبط الاستقرار". وثانيها تقليص الدور المستقبلي لأي سلطة فلسطينية مستقلة قوية، واستبدالها بمنظومة إدارة انتقالية متعددة الأطراف يمكن التأثير عليها دبلوماسياً. وثالثها استمرار مرونة الحركة العسكرية الإسرائيلية، إذ لا يتضمن القرار أي تقييد مباشر للعمليات الاستباقية بحجة “منع تهديدات أمنية”. هذه الصيغة تمنح الاحتلال قدرة استمرار التدخل العسكري حين يراه مناسباً، تحت مبررات مكافحة التسلح أو حفظ الأمن.
في الجانب المقابل، وبالرغم من استفادة إسرائيل الواضحة من هيكلية القرار، إلا أن هناك مخاطر استراتيجية جادة تثير قلقها. فوجود مجلس سلام قد يؤدي – إذا اكتسب شرعية سياسية وتأييداً دولياً – إلى خلق مرجعية فلسطينية جديدة تتجاوز الانقسام السياسي التقليدي وتصبح منصة تفاوض بديلة قد تفرض طرح الدولة الفلسطينية على الطاولة من جديد. كذلك، فإن وجود مراقبين دوليين يعزز توثيق الانتهاكات، ويرفع كلفة التصرفات العسكرية الإسرائيلية، ويضعها في إطار مراقبة قانونية وأممية يصعب التحكم فيها.
إحدى النقاط الحساسة هي أن مشاركة دول مختلفة في القوة الدولية يعني أن مواقفها قد تتغير مع الزمن، وقد تتحول التدريجياً نحو مواقف أكثر استقلالية عن التوجه الأميركي أو الإسرائيلي. في مرحلة ما قد تجد إسرائيل نفسها أمام قوة دولية تميل أكثر للحياد أو للوقوف عند ملاحظاتها، مما يحد من امتيازها التاريخي في التحكم بمسار الصراع. إضافة إلى ذلك، إذا تلمس المجتمع الدولي أن القوة تُستخدم لتسهيل الهيمنة الإسرائيلية، قد تنسحب بعض الأطراف، مما يخلق فراغاً أمنياً أكثر تعقيداً.
يتجلى أيضاً خطر تدويل القضية الفلسطينية مجدداً، بما يعيدها إلى الواجهة الدولية، ويقلص قدرة إسرائيل على تفضيل إطارها التاريخي المتمثل بالمفاوضات الثنائية التي تستطيع التحكم بها. كما يمكن للقوة الدولية أن تصبح منصة لتوجيه تقارير موثقة بشأن الجرائم والانتهاكات، ما يساهم في تعزيز المسارات القضائية ضد شخصيات عسكرية وسياسية إسرائيلية في المستقبل.
يتصل بهذه التحولات أيضاً تأثيرها على الداخل الإسرائيلي، إذ يهدد القرار بإظهار هشاشة التوازنات الداخلية، وتوتر العلاقة بين المؤسسة الأمنية والحكومة، ويكشف تناقضات النظام السياسي، مما يعطي خصوم الاحتلال أدوات ضغط سياسية وإعلامية. كذلك، يقلص القرار هامش تنفيذ ضربات استباقية ويحد من استراتيجية الردع العسكري، لأنه يضع التحركات الإسرائيلية تحت رصد مباشر وتدقيق دولي قد يتطور إلى مساءلة أو تقييد.
في المحصلة، لا يمثل القرار تهديداً عسكرياً مباشراً لإسرائيل، لكنه يمس جوهر منهجها الاستراتيجي في إدارة الصراع: التحكم في السياق الدولي، وضبط الرواية، ونزع الشرعية عن الخصم الفلسطيني، وإبقاء الصراع ضمن قواعد اللعبة التي تحددها تل أبيب. القرار 2803 يفتتح مرحلة سياسية جديدة، لا تُنهي الصراع بل تعيد تشكيله، وتخلق مساحة موازين قوى مختلفة قد تشكل لاحقاً تحولاً جوهرياً في المشهد السياسي والقانوني الإقليمي.
الكاتب: غرفة التحرير