تتقاطع مسارات متشابكة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في المشهد اليمني اليوم، تكشف بمجملها عن تحوّل عميق في موازين القوى الإقليمية، وعن أزمة متفاقمة لدى القوى الغربية التي أعادت تفعيل حضورها في الجنوب والبحر الأحمر تحت عنوان "الأمن البحري". غير أنّ الوقائع الميدانية، والتحركات الدبلوماسية المستمرة، والمواجهات المتجددة على الحدود اليمنية -السعودية، تعيد رسم صورة مختلفة تماماً: يمنٌ صاعد يفرض قواعد اشتباك جديدة، مقابل مسار غربي -سعودي يتعثر عند كل مفصل.
أولى الإشارات البارزة تتجلى في الحراك البريطاني الأخير في عدن، الذي لا يمكن قراءته كخطوة تقنية تتعلق بـ"إعادة تأهيل خفر السواحل" كما يروّج إعلام لندن، بل كعودة سياسية - أمنية مباشرة إلى سواحل تراها بريطانيا جزءاً من مجالها التاريخي. الزيارة البريطانية جاءت في لحظة يتراجع فيها نفوذ الرياض وأبوظبي على الأرض، وتتآكل فيها أدوات القوى المحلية التي تتكئ عليها لندن وواشنطن منذ سنوات الحرب. ومع صعود صنعاء كفاعل بحري قادر على تعطيل الملاحة العسكرية وفرض معادلات جديدة في البحر الأحمر، بدا التدخل البريطاني أشبه بمحاولة إنقاذ ما تبقّى من نفوذ متداعٍ.
هذه الحركة البريطانية تتكامل مع استراتيجية أميركية تراكمت إخفاقاتها العسكرية منذ بداية الحرب. واشنطن التي أدارت غرف العمليات وقدّمت الإسناد الاستخباراتي لم تنجح في تحقيق مكسب استراتيجي يغيّر موازين الصراع، فانتقلت إلى تعزيز حضورها في الجزر والموانئ المحتلة، وإلى بناء خطوط تواصل مع قوى محلية فقدت القدرة على التأثير. وعلى الرغم من ذلك، استطاعت صنعاء عبر قدراتها الصاروخية والبحرية أن تربك جزءاً من النشاط العسكري الأميركي- البريطاني في البحر الأحمر، لتتراجع فعالية الردع الغربية للمرة الأولى في هذه المنطقة الحيوية.
بالتوازي مع الضغوط العسكرية، فعّلت لندن وواشنطن مسار الحرب الاقتصادية، عبر إدارة سياسات تستهدف موارد اليمن ومحاولة عزل صنعاء اقتصادياً. بريطانيا التي تتصدر اللجنة الرباعية الاقتصادية، عززت من أدوات التضييق على الواردات والموارد العامة، في محاولة لاستثمار الضغط المعيشي بهدف فرض تنازلات سياسية. غير أن هذا النهج يظهر محدودية فعاليته في ضوء صمود المؤسسات الوطنية في صنعاء، التي تعمل على تخفيف آثار الحصار، فيما تستثمر القوات المسلحة اليمنية نفوذها البحري للضغط في سلاسل الإمداد العالمية، بما يعيد فتح الحسابات الغربية على مستوى الأمن البحري.
في الخلفية، تستمر صنعاء في تثبيت حضورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها. فقدراتها على التأثير في الأمن البحري، وتماسكها الداخلي السياسي والعسكري، جعلتها لاعباً مركزياً في البحر الأحمر. وهذا ما يفسر تسارع وتيرة التواصل الغربي -الخليجي في الجنوب المحتل، في محاولة لإعادة تجميع القوى المحلية المنقسمة، والتي لم تعد قادرة على تشكيل حائط صد أمام صعود صنعاء العسكري والاستخباراتي.
لكن الصورة لا تكتمل دون النظر إلى التوتر المتجدد في مسار السلام بين صنعاء والرياض. فبعد تلويح صنعاء بتسليم الملف للمؤسسة العسكرية، اندفع المبعوث الأممي هانس غروندبرغ إلى مسقط لإجراء سلسلة لقاءات هدفت إلى تثبيت الهدنة المستمرة منذ ثلاث سنوات. التقى غروندبرغ بوزير الخارجية العماني، وبالوزير الإيراني عباس عراقجي، في مسعى لإعادة تحريك المفاوضات، في حين شهدت عدن والرياض حراكاً دبلوماسياً موازياً يشير إلى رغبة أطراف إقليمية ودولية في منع انهيار المسار السياسي.
مع ذلك، فإنّ التوتر بين صنعاء والرياض في تصاعد. الواقع أن السعودية تحاول الظهور كوسيط سلام رغم دورها القيادي في الحرب، وأنها تربط تقدم المسار التفاوضي بضمانات تتصل بأمن سفن كيان الاحتلال في البحر الأحمر. هذا الربط يزيد التباعد بين الطرفين، خصوصاً أن استمرار الضغوط الاقتصادية والتباطؤ في تنفيذ استحقاقات السلام يعززان المزاج الشعبي الداعي إلى العودة للخيار العسكري.
على الأرض، تشهد الحدود اليمنية- السعودية في الجوف مواجهات متقطعة اتسعت خلال الأيام الأخيرة، مع استخدام الفصائل الموالية للرياض للطيران المسيّر بدعم سعودي مباشر. وفي موازاة ذلك، أطلق الإعلام الحربي اليمني حملة تعبئة بُثّت خلالها مشاهد من التوغلات السابقة في جيزان ونجران وعسير، تحت شعار "إن عدتم عدنا"، بما يعكس رسائل واضحة حول استعداد صنعاء للعودة إلى العمليات الهجومية إذا استمرت المماطلة في المفاوضات.
تكشف التطورات الأخيرة أن اليمن لم يعد ساحة صراع يتنازع عليها الآخرون، بل فاعلاً يعيد صياغة معادلات الإقليم. التحركات البريطانية – الأميركية، والحراك السعودي المستمر، والمبادرات الأممية، كلها تبدو غير قادرة على تجاوز حقيقة أن صنعاء باتت الطرف الأكثر قدرة على التأثير في اتجاهات الحرب والسلام. ومع استمرار الضغوط الاقتصادية والعسكرية من الخارج، وصعود خطاب الاستقلال والسيادة في الداخل، يتجه المشهد اليمني نحو مرحلة أكثر حساسية، يصبح فيها احترام الإرادة اليمنية شرطاً لأي استقرار مقبل في البحر الأحمر والمنطقة عموماً.
الكاتب: غرفة التحرير