جاءت سلسلة الإقالات والعقوبات التي أعلنها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير لتكشف عن لحظة انفجار داخل المؤسسة العسكرية، بعد عامين من تراكم الأزمات منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ورغم أنّ أسماء الضباط الذين شملهم القرار سبق أن استقال معظمهم أو تقاعد، فإن دلالات الخطوة تتجاوز البعد الإداري، إذ تعكس رغبة قيادة الجيش في تثبيت سردية داخلية رسمية بشأن المسؤوليات، ومحاولة إعادة ترميم ما اعتبرته لجنة الخبراء تحقيقاً في "فشل منهجي وتنظيمي عميق" أصاب البنية العسكرية- الاستخباراتية في مستوياتها العليا.
التقرير الذي استند إليه زامير شكّل نقطة التحوّل. فهو لم يكتفِ بتحديد إخفاقات عدة، بل وضع المؤسسة بكاملها أمام مرآة تُظهر فجوات بنيوية في تقدير الموقف وفي آليات اتخاذ القرار. أبرز ما كشفه التقرير هو الفجوة بين الواقع العملياتي على حدود غزة وبين التصور المؤسسي الذي حكم طريقة تعامل الجيش مع حركة حماس، ما أدى إلى تجاهل مؤشرات متراكمة كان ينبغي أن تحرك أجهزة الإنذار المبكر. الأخطر أنّ التقرير أكد امتلاك الجيش "معلومات استثنائية ونوعية" لم تُترجم إلى إنذار فعلي، ما يُسقط مبررات القيادة الاستخباراتية السابقة ويجعل مسؤوليتها مباشرة.
من هذا المنطلق، اتخذ زامير إجراء حاسماً بشطب كلّ مساحة الالتباس المتبقية حول وضع الضباط المعنيين. فإقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون حليفا، وقائد المنطقة الجنوبية يارون فنلكمن، ورئيس شعبة العمليات أودي باسيوق، جاءت لتغلق رسمياً مرحلة الاعتذارات الفردية والاستقالات الطوعية، وتفتح مرحلة تحميل المسؤولية الشخصية. وبهذا المعنى، تبدو الخطوة محاولة لإعادة تعريف المستويات التي تتحمل مسؤولية الفشل، عبر إظهار الجيش كجسم قادر على محاسبة نفسه ـ ولو جزئياًـ في ظل غياب آلية تحقيق رسمية خارجية.
لكن هذه الدينامية لم تمر دون ارتدادات داخلية. فقد وصفت صحيفة يديعوت أحرنوت القرارات بأنها تشكل "هزة" داخل الجيش، لأنها تعيد ترسيم خطوط المساءلة بطريقة قد تُفهم سياسياً على أنها محاولة لإعادة توزيع اللوم. بعض الضباط السابقين والحاليين رأوا أن الإجراءات طاولت شريحة محددة من المسؤولين بينما أعفت آخرين، فيما حذّرت جهات قانونية من احتمال اصطدام هذه الخطوات بمسارات قضائية قائمة، خاصة تلك المتعلقة بـ"الملاحظات الشخصية" التي قد يصدرها مراقب الكيان. هذه الاعتراضات تعكس انقساماً داخل المؤسسة حول المنهجية التي اعتمدها زامير، وحول مدى اتساقها مع القواعد القانونية والتنظيمية التي تضبط المساءلة العسكرية.
بالتالي، عزز قرار زامير فرض عقوبات تأديبية على قائد سلاح الجو تومر بار وقائد البحرية دافيد سار، إلى جانب أربعة جنرالات وأربعة ضباط كبار آخرين، الانطباع بأن الجيش يسعى لبناء جدار عازل بينه وبين القيادة السياسية. فهذه الخطوة تضع القيادة العسكرية في موقع من يريد إثبات أنّ الفشل لم يكن نتاجاً لمستوى واحد، بل نتيجة خلل في مجموعة من المستويات العليا. إلا أنّ هذا المسار اصطدم سريعاً بموقف رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، الذي حمّل القيادة السياسية المسؤولية "النهائية" عن الفشل الأمني الأكبر في تاريخ إسرائيل، ليعود السؤال إلى الواجهة إلى أي مدى يمكن للجيش أن يُجري محاسبة ذاتية شاملة دون لجنة خارجية مستقلة؟
هذا السؤال يقف في قلب الجدل السياسي الدائر. فبينما يدعو زامير ـ أسوة بسلفه هرتسي هاليفي ـ إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية ذات صلاحيات كاملة، تصرّ حكومة بنيامين نتنياهو على رفض هذه الخطوة، متذرعة بانقسام داخلي واسع. لكن المعارضة ترى أن هذا الرفض لا يعدو كونه محاولة لحماية القيادة السياسية من نتائج التحقيق. وقد لجأت الحكومة إلى تشكيل "لجنة تحقيق وطنية" ثم لجنة وزارية برئاسة وزير القضاء ياريف ليفين لتحديد نطاق التحقيق، في خطوة تبدو أقرب إلى إدارة النقاش أكثر من حسمه.
تتجاوز تداعيات قرارات زامير حدود المؤسسة العسكرية لتلامس مستقبل العلاقة بين الجيش والسلطة السياسية. فالإقالات، في جوهرها، ليست مجرد إجراءات تنظيمية، إنما إعلان عن أزمة ثقة داخلية، وعن محاولة لاستعادة "شرعية" مفقودة منذ 7 أكتوبر. ومع استمرار غياب لجنة تحقيق رسمية، يبقى الجيش في موقع من يحاول ملء الفراغ بأنظمة مساءلة جزئية، فيما تتصاعد مخاوف من أن تتحول هذه الإجراءات إلى أداة لإعادة توزيع المسؤوليات بدلاً من كشف الحقيقة الكاملة.
تشكّل هذه الخطوات مؤشراً على انتقال الأزمة من مرحلة الصدمة إلى مرحلة إعادة البناء، لكن من دون ضمانات تمنع الانزلاق نحو صراع أعمق بين الجيش والقيادة السياسية. وفي ظل الانقسامات الحالية، تبدو المؤسسة الإسرائيلية مقبلة على مرحلة طويلة من إعادة التشكل، قد تمتد تداعياتها إلى ما هو أبعد من حدود المؤسسة العسكرية نفسها.
الكاتب: غرفة التحرير