تُشكّل الضفة الغربية اليوم أحد أهم ميادين الصراع في فلسطين، كونها ليست مجرد مساحة جغرافية، بل كيانًا مركزيًا تتداخل فيه العوامل الديموغرافية والتاريخية والاستراتيجية والأمنية. فهي ليست ملحقًا جغرافيًا لقطاع غزة، ولا مجرد مساحة مشمولة في المفاوضات، بل هي قلب فلسطين النابض، وميدان الصراع الأكثر عمقًا وتأثيرًا على مسار القضية الفلسطينية ومستقبل الكيان الإسرائيلي.
أولاً: البعد السكاني والديموغرافي
يقدَّر عدد الفلسطينيين في الضفة بحوالي 3.3 مليون نسمة، يعيشون ضمن شبكة جغرافية من المدن والمخيمات والقرى، مع تركز سكاني أكبر في محافظتي الخليل والقدس. هذه الكثافة البشرية لا تعكس وجودًا عدديًا فقط، بل تشير إلى ثقل اجتماعي واقتصادي وثقافي، يجعل من الضفة بُعدًا أساسيًا في الهوية الوطنية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته مصدر قلق للكيان الصهيوني الذي يسعى إلى تقليص التجمعات الفلسطينية عبر سياسات الهدم والمصادرة والتضييق والحصار الجغرافي.
ثانيًا: البعد الجغرافي – عمق فلسطين ومفتاح السيطرة
تُعدّ الضفة الغربية ذات موقع مركزي في الجغرافيا الفلسطينية، فهي تمتد بمحاذاة مناطق الاحتلال عام 1948 على طول كتلة جبلية مرتفعة تطل مباشرة على الساحل الفلسطيني المحتل. هذه الجبال تشكل موقعًا استراتيجيًا يتيح المراقبة والسيطرة النارية على أهم المراكز الإسرائيلية الحيوية، أبرزها منطقة تل أبيب ومطار بن غوريون وشارع 60. لذلك ينظر الاحتلال إلى الضفة باعتبارها "خاصرته الأمنية"، فيما ينظر إليها الفلسطينيون باعتبارها نقطة ضغط استراتيجي قادرة على تغيير قواعد المواجهة.
ثالثًا: الاستيطان – أداة السيطرة وتفكيك الجغرافيا
الضفة الغربية اليوم تعيش أكبر عملية تفتيت مجالي في تاريخها. بعد اتفاق أوسلو، جرى تقسيم أراضي الضفة إلى مناطق (أ، ب، ج)، بحيث ظلت الأخيرة - التي تشكل 59% من المساحة - تحت السيطرة الأمنية والإدارية الكاملة للاحتلال. هذا المكسب الجغرافي الاستعماري أتاح للمستوطنات أن تتمدد على نحو غير مسبوق.
وفق الأرقام الموثقة، ارتفع عدد المستوطنات والمواقع الاستيطانية إلى 480 موقعًا متنوعًا بين مستوطنة وبؤرة ومواقع عسكرية وخدمية. كما تجاوز عدد المستوطنين 730 ألفًا، ليصبحوا القوة السكانية المهيمنة في بعض المناطق، وقد تحولت تجمعاتهم الاستيطانية إلى شبكات وظيفية متكاملة تضم الطرق الالتفافية، البنى التحتية الخاصة، والحماية الأمنية المباشرة من جيش الاحتلال.
رابعًا: منظومة الحواجز والهندسة الأمنية للجغرافيا
تتعرض الضفة لإحدى أعقد حالات الإغلاق العسكري في العالم؛ إذ تنتشر فيها أكثر من 4 آلاف حاجز ثابت ومتحرك، إضافة إلى جدار الفصل العنصري الذي يمتد بطول 714 كيلومترًا. هذه الهندسة الأمنية تهدف إلى:
- تقطيع أوصال المدن والبلدات
- عزل الكتل السكانية الفلسطينية
- خلق تجمعات محاصرة محليًا
- ترسيخ وجود استيطاني غير متصل جغرافيًا فقط، بل سياسيًا وأمنيًا ونفسيًا أيضًا
خامسًا: المقاومة – تحول نوعي واستمرارية اشتباك
شهدت الضفة في السنوات الأخيرة تصاعدًا في الفعل المقاوم، سواء الفردي أو التنظيمي. منذ عام 2015، الذي كان نقطة تحوّل مع انطلاق انتفاضة القدس، تزايدت عمليات إطلاق النار، والطعن، والدهس، والتفجير، وعمليات الاشتباك داخل المدن والمخيمات. وتُظهر الأرقام أن الفترة منذ 7 أكتوبر حتى نهاية 2025 سجلت أكثر من 4000 عمل مقاوم نوعي، بما فيها عمليات تفجير عبوات، كمائن مسلحة، عمليات قنص، واقتحامات لعمق المستوطنات.
هذا التحول لا يعكس فقط تصاعد الغضب الشعبي، بل نشوء نمط جديد من المقاومة المحلية الصغيرة والمتوسطة، التي تعتمد على مجموعات متفرقة، غير مركزية، تعمل بتكتيك حرب المدن واستنزاف قوات الاحتلال.
سادسًا: البعد السياسي – الضفة كعامل حسم
يدرك الاحتلال أن السيطرة على الضفة هي ضمانة بقائه ككيان استيطاني. فهي:
- تمثل موقع التمدد الاستيطاني الرهيب
- موقع المشروع اليميني الإسرائيلي لإكمال "يهودية الأرض"
- عنصر ضغط على أي تشكيل سياسي فلسطيني قادم
- ورقة تفاوض في كل محاولات التسوية
ومقابل ذلك، يدرك الفلسطينيون أن الضفة ليست مجرد منطقة متروكة للاجتياح الأمني، بل ميدان اشتباك مفتوح، وأن بقاء الاحتلال مرهون بقدرته على إخضاع الضفة، وهي عملية باتت أكثر كلفة وأكثر صعوبة مع مرور الزمن.
الضفة الغربية اليوم ليست مجرد ساحة مواجهة، بل هي المفتاح الذي يُعيد تعريف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فبين محاولات الاحتلال لفرض وقائع نهائية عبر الاستيطان والتهويد، وبين تصاعد المقاومة الشعبية والمسلحة، تتبلور الضفة كعاملٍ قادر على قلب الموازين. إن فهم الضفة يعني فهم قلب المعركة. وما يحدث فيها اليوم سيشكّل مستقبل فلسطين، ومصير الاحتلال، وحدود التحولات القادمة في الإقليم كله.
الكاتب: غرفة التحرير