كان السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 يوماً انهارت فيه أسطورة الأمن الإسرائيلي. في ساعات الفجر الأولى اخترق مقاتلو المقاومة الفلسطينية حدود غزة في مشهد لم يشهده الكيان منذ قيامه. آلاف المقاتلين اجتازوا السياج، دمّروا مواقع عسكرية، سيطروا على مستوطنات، وأسروا جنوداً ومدنيين في مشهدٍ حوّل التفوق العسكري الإسرائيلي إلى هشيم في لحظة واحدة. لم يكن ذلك مجرد فشل في الميدان، بل انهيار كامل لعقيدة أمنية بُنيت على الردع والإنذار والحماية، وسقوط لمفهوم "التفوّق الأبدي" الذي لطالما تغنّت به إسرائيل.
جاءت المفاجأة كاملة لأن إسرائيل كانت تعيش وهم السيطرة. ثقتها المطلقة بأجهزتها التكنولوجية جعلتها تتعامل مع المقاومة كعدو ضعيف يمكن ضبطه عن بعد عبر الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار. تحوّل الاعتماد على التقنية إلى عبء قاتل حين تعطلت الكاميرات والمدافع الآلية في اللحظة الأولى للهجوم، وسقطت أنظمة المراقبة التي أنفقت عليها المليارات، بينما كانت وحدات المراقبة البشرية شبه غائبة. أُخمدت عيون الجيش في دقائق، وتحوّل الخط الدفاعي الجنوبي إلى فراغٍ مكشوف.
في عمق هذا الفشل ترسّخت "الغفلة" كصفة بنيوية. فالأجهزة الاستخبارية تجاهلت إشارات كثيرة: مناورات حماس، رسائلها الميدانية، وتكثيف تدريباتها على اقتحام المستوطنات. ورغم وصول وثيقة مفصّلة عام 2022 تشرح خطة هجوم شاملة، بقيت حبيسة الأدراج باعتبارها سيناريو افتراضياً. أسوأ ما في الأمر أن السياسة الإسرائيلية كانت منشغلة بصراعات داخلية حول السلطة والقضاء، بينما كان الجيش يسحب وحداته من غلاف غزة لحماية مستوطنات الضفة، تاركاً الجبهة الجنوبية بلا حراسة كافية.
كان "الهدوء" هو الخديعة الكبرى. فقد صدّق نتنياهو ومن حوله أن المال يمكن أن يشتري الاستقرار. سمح بتدفق الأموال القطرية إلى غزة، وفتح الباب أمام آلاف العمال الفلسطينيين للعمل في الداخل المحتل، معتقداً أن الاقتصاد سيحلّ محلّ السلاح. غير أنّ هذه الأموال تحوّلت إلى وقود لبناء القوة العسكرية التي فجّرت المفاجأة الكبرى. كانت حماس قد قرأت العدو بذكاء، فاستثمرت في هدأته المزيّفة لتستعدّ للحظة الانفجار.
وحين حانت اللحظة، كانت الضربة مدروسة. في دقائق انهارت المواقع العسكرية، وسقطت قواعد فرقة غزة، وتحوّل التفوق التكنولوجي إلى عبء يفضح عجزه. لم يكن الفشل تقنياً فقط، بل عقلياً في المقام الأول. فقد أُسرت القيادة الأمنية لفكرة أن حماس مردوعة ولا تجرؤ على مغامرة واسعة، وتبنّت تقديرات استخبارية مغلقة لا تسمح باختلاف الرأي، فيما تجاهلت المؤشرات التي كانت تلوّح بأن العاصفة قادمة. كانت إسرائيل أسيرة لغطرستها، تحكمها عقلية لا ترى في الطرف الآخر إلا صورة نمطية عن "عدوّ ضعيف" لا يمتلك القدرة على المبادرة.
ومع انهيار المنظومة العسكرية، انكشفت بنية الكيان كله. اهتزت الثقة بالجيش وبقدرة الدولة على حماية مواطنيها، وتحوّل الشعور العام داخل المجتمع الإسرائيلي إلى ذعر وجودي. في تلك الساعات لم تكن المعركة على الحدود فقط، بل في عمق الهوية الصهيونية نفسها. فالدولة التي بُنيت على فكرة الأمن المطلق اكتشفت أنها عاجزة عن ضمانه، وأن مشروعها يقوم على وهم قابل للانكسار.
أمام هذا الانكشاف، اتجهت القيادة الإسرائيلية إلى إعادة صياغة مفهوم الأمن. لم يعد الهدف إدارة الصراع واحتواؤه، بل القضاء على التهديدات جذرياً. أُعلن أن الحرب لم تعد على حدود أو على تنظيمات، بل على "الخطر الوجودي". هكذا تحوّلت إسرائيل إلى كيان يعيش على حالة استنفار دائم، يشنّ ضربات استباقية في كل اتجاه، ويعتبر أي قوة مقاومة مشروعاً للزوال. لم تعد معادلة "الهدوء مقابل الهدوء" مقبولة، بل "الردع عبر الإبادة" هو المنطق الجديد.
في موازاة ذلك، أعيد بناء العقيدة العسكرية على أسس مختلفة: تعزيز التجنيد الإجباري، تسليح المستوطنين، إنشاء مناطق عازلة، واستثمار الذكاء الاصطناعي في الحرب. ظهرت وحدات جديدة متخصصة في التكنولوجيا والمسيّرات، وأُعيد الاعتبار إلى الاستخبارات البشرية بعد أن أثبتت الأجهزة الآلية عجزها. صار من شروط العمل في الاستخبارات إتقان العربية وفهم البعد الثقافي والديني للعدو، بعدما تبيّن أن الجهل به كان أحد أسباب الهزيمة.
هكذا تحوّل إخفاق السابع من أكتوبر إلى لحظة تأسيس جديدة في الوعي الإسرائيلي: لم تعد المسألة مجرد فشل عسكري، بل أزمة هوية ووجود. فالكيان الذي كان يفاخر بقدرته على الردع أصبح يعيش في خوف دائم من المفاجأة التالية. أما في المقابل، فقد أثبتت المقاومة أن الإرادة والإيمان قادرتان على كسر أكثر الجدران تحصيناً. بين عقلٍ مأزومٍ يعيش على الخوف، وروحٍ تقاتل بثقة، تبدو معادلة الصراع بعد السابع من أكتوبر وكأنها دخلت طوراً جديداً: طور سقوط الأسطورة وصعود الإرادة.
الكاتب: غرفة التحرير