الخميس 18 أيلول , 2025 04:34

المقاتل الذهبي في معركة أولي البأس

بعد عام من حصول مجزرة البيجر في لبنان، وما تبعها من عدوان إسرائيلي واسع، يستمر الى يومنا هذا لكن بوتيرة أقل اتساعاً، وما حصل خلال هذه الفترة على صعيد جرحى ومصابي هذه المجزرة، من تعاف وإفشال أهداف إسرائيل التي أرادت تحقيقها خلال العملية، يمكن وصف كل مقاوم تم استهدافه بهذه العملية - وهو ما ليس بمبالغة بل توصيف مبني على الوقائع والمعطيات- أنه المقاتل الذهبي الذي لم تستطع إسرائيل بتفخيخها للبيجر ومن ثم تفجيره (الذي تفاخر به نتنياهو فحوّله الى هدية مذهّبة وأهداه للرئيس الأمريكي دونالد ترامب كنوع من الفخر بالعملية)، تحييد هذا المقاتل عن المشاركة في المعركة، أو ضرب إراداته وروحيته المقاومة.

وفي المقابل، رغم وحشية الكيان في قتل المدنيين في غزة ولبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران، واستباحته لكل القيم الإنسانية والقانونية الدولية في أخلاقيات الحروب وادعائه تحقيق الانتصارات، فإن جنوده وضباطه في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إما يقدمون على الانتحار أو يفرّون من ساحات المعارك، أو يختبئون خلف شاشات القتال، لأنهم أعجز من القتال وجهاً لوجه مع المقاومين.

القائد الجريح والشهيد محمد سكافي "الحاج مصعب"

مقاتل ذهبي من الإصابة حتى النصر أو الشهادة

فمنذ اللحظات والساعات الأولى لما بعد حصول المجزرة، أظهر مصابي وجرحى البيجر في المستشفيات، بالرغم من هول وصعوبة ما حصل، سكينةً استثنائيةً وتمسكاً بالقيم الإنسانية النبيلة – لا بغريزة البقاء – ما أذهل الكثير من أفراد الطواقم الطبية ومن صادفهم، واستمرّت هذه الروحية حتى ما بعد فرتة العلاج، مروراً بالمشاركة في القتال خلال الحرب الموسّعة، وصولاً الى مرحلة الاستشهاد أو النصر، وحالياً من خلال المشاركة الفعّالة في مرحلة التعافي (الفردية والمجتمعية).

وقد ظهرت هذه الأمور من خلال العديد من السلوكيات التي قاموا بها، وأبرزها:

_ نسيان الأفراد لإصاباتهم واهتمامهم بالسؤال عن سلامة قائدهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.

_ الروحية العالية في تقبّل ما أصابهم من جراح وإصابات غير معهودة، بكل سكينة وطمأنينة، واحتساب ذلك كأمر طبيعي في سياق المواجهة مع كيان الاحتلال، بالرغم من وحشية هذه الجريمة وأسلوبها اللا إنساني. وأكثر ما تجّلت هذه الروحية، من خلال تعاملهم من الطاقم الطبي ومع عوائلهم وأحبائهم، فالجرحى هم من كانوا يُطمأنون ويُخففون من هول ما يحصل لا العكس.

_الاستعداد العالي للتضحية بالدور، في تلقي العلاج والدخول الى غرف العمليات، أمام المصابين الآخرين.

_ الإصرار على معرفة الوتيرة الزمنية للعلاج، ومحاولة الضغط لتسريعها من أجل العودة الى جبهات القتال.

_ المشاركة والدور الفعّال على جبهات القتال، رغم حداثة الإصابات بروحية وإصرار وعزيمة أكبر. وهذا ما عبّر عنه السيد نصر الله حينما قال في خطابه حول الجريمة بأن " تصريحات الجرحى أنفسهم تعكس معنوياتهم وصبرهم العظيم وعزيمتهم على العودة إلى الميدان وهذا رد آخر للعدو".

وهنا لا بُد الإشارة إلى أن من اللطائف الإلهية لتداعيات هذه المجزرة وأيضاً إحدى مظاهر الروحية العالية عند "المقاتلين الذهبيين"، هو أن العدد الأكبر منهم التحق في مواقع قد استُشهد جميع أفرادها أو قادتها، فكان لوجودهم وعملهم تأثيراً عملياً وروحياً، ساهم كثيراً بالتصدي للعدوان الإسرائيلي وتحقيق النصر.

_ بعد انتهاء العدوان، انخرط جميع المصابين كل وفقاً لمساره العلاجي، في عملية التعافي على الصعيد الفردي والمجتمعي، بعزيمة وروحية أكبر، بحيث كانوا في طليعة المشاركين بالمناسبات والأنشطة العامة، من تشييع للسيدين الشهيدين في شباط / فبراير الماشي، وخلال إحياء المناسبات الدينية في شهري رمضان المبارك وعاشوراء الحسين عليه السلام وفي الانتخابات البلدية، وغيرها من المناسبات التي كان لوجودهم ومشاركتهم فيها الدور التعبوي الكبير والمهم، لما باتوا يمثلونه من مظهر عز وصمود وتحدٍّ.

المُقابل: انتحار وهروب من الخدمة

في المقابل، يعاني كيان الاحتلال الإسرائيلي من ظواهر عديدة ومترابطة داخل مجتمعه الاستيطاني، تكشف مدى هشاشة الروحية القتالية عند أفراد جيشه. وهذه الظواهر تصاعدت  حدّتها منذ ما بعد تشرين الأول / أكتوبر 2023 وهي: تزايد حالات انتحار الجنود، وتزايد حالات رفض أو تردد جنود الاحتياط في الخدمة، ونقص الموارد البشرية المُتزايد في الجيش الإسرائيلي بسبب كثرة الإصابات النفسية، وشكاوى المستوطنين من استمرار الحرب في غزة.

ويُعدّ الارتفاع الموثّق في حالات الانتحار بين الجنود والاحتياط (أكثر من 54 شخص ومن دون اعتراف من جيش الاحتلال)، أحد أكثر مظاهر هذه التكلفة إيلامًا وشحنًا سياسيًا. يشير الأطباء العسكريون والتقارير الاستقصائية إلى ارتفاع مُقلق في حالات الانتحار، والذي يبدو في كثير من الحالات مرتبطًا بالضغوط النفسية الناجمة عن الانتشار المتكرر في الخطوط الأمامية، وصدمات القتال، واضطراب الحياة الاجتماعية والأسرية التي تُسببها العمليات الطويلة. وقد واجهت خدمات الصحة النفسية العسكرية صعوبة في مواكبة الطلب المتزايد؛ ويشير المحللون إلى وجود فجوات بين التعرض للضغوط في الخطوط الأمامية وتوافر مسارات رعاية متسقة ومقبولة ثقافيًا للجنود أثناء انتشارهم وبعد عودتهم إلى بيوتهم. وفي هذا الإطار، شكى العديد من الجنود القدامى من تقصير حكومة الكيان في معالجة ارتفاع معدلات الانتحار بين المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، وهو ما أقرّت وزارة الحرب الإسرائيلية بوجود "ثغرات كبيرة" حوله. فقد أدّت حرب طوفان الأقصى الى زيادةً حادةً في عددِ طلباتِ المساعدةِ، سواءً في حالاتِ الضيقِ أو في عددِ حالاتِ الانتحارِ، سواءً في المجتمعِ الاستيطاني أو بينَ من يلتحقون بالجيش الإسرائيليِّ. وتشمل الثغراتٍ مجالاتِ الكشفِ والوقايةِ والعلاج.

والظاهرة الأولى ترتبط ارتباطًا وثيقًا برفض جنود الاحتياط إعادة التجنيد، أو تأخير عودتهم إلى الخدمة، أو التعبير علنًا عن رفضهم للخدمة في عمليات محددة. ورغم أن الخدمة العسكرية الإسرائيلية - وخاصةً خدمة الاحتياط - تُعتبر مقدسة لدى شرائح واسعة من المجتمع الاستيطاني، إلا أن طول ومسار العمليات العسكرية في غزة، دفعت بالكثير منهم الى الرفض لأسباب سياسية (مثل معارضة سياسات الحكومة)، أو لأسباب "أخلاقية" (الاعتراف بوجود أوامر أو عمليات معينة تنتهك المعايير الأخلاقية والقانونية والانسانية)، أو لأسباب عملية (الإرهاق والقلق على استقرار عوائلهم). وتوثق التقارير الإعلامية والتغطية الميدانية انخفاضًا في الإقبال على بعض عمليات استدعاء جنود الاحتياط، ونقاشًا عامًا واضحًا حول شرعية وحدود الاحتجاج السياسي من قبل الجنود.

أما الظاهرة الثالثة فهي حال الاستنزاف الكبيرة التي أصابت القوات النظامية في الجيش، وفرضت أعباءً استثنائيةً على قوات الاحتياط. وقد حذّر كبار مسؤولي جيش الاحتلال الإسرائيلي وآخرهم رئيس إدارة الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي دادو بار خليفة بأن جيشه بات بحاجة ماسة إلى ما بين 11 و12 ألف جندي إضافي. وهذا النقص بتركّز في الوحدات القتالية والتخصصات، وهو ما أجبر مديري القوات على تمديد فترات الخدمة، واستدعاء أعدادٍ غير مسبوقة من جنود الاحتياط، وإعادة توزيع الأفراد من أدوار الدعم إلى أدوار قتالية، والنظر في اتخاذ تدابير سياسية لتوسيع نطاق التجنيد - بما في ذلك حوافز لمتطوعي الشتات، وزيادة تجنيد النساء في الأدوار القتالية، والجهود التشريعية المتعلقة بقانون التجنيد.

وفي سياق الظواهر الأخرى، يتفاقم الإحباط لدى المستوطنين من طول أمد القتال في غزة وفي غيرها من الجبهات. بحيث أظهرت استطلاعات الرأي العام الصادرة عن عدة جهات تراجعًا في الدعم الاستيطاني للحرب مع امتدادها لأكثر من عام ونصف: فقد انخفضت نسب التأييد في العديد من الاستطلاعات، وتزايدت المخاوف بشأن "التداعيات الإنسانية"، ويشكك عدد متزايد من الإسرائيليين وحتى المراقبين الخارجيين في المكاسب الاستراتيجية طويلة الأجل لحملة برية مطولة.

أما بالنسبة للجنود وأفراد الاحتياط - الذين يُطلب منهم العودة مرارًا وتكرارًا إلى قتال طويل ذي جداول زمنية غامضة - تتحول الحسابات السياسية من الصمود إلى الإرهاق وخيبة الأمل والبأس. وبالمثل، قد يضغط أفراد عائلات الجنود وأصحاب العمل الذين يتحملون التكاليف الاجتماعية والاقتصادية للتعبئة المتكررة بشكل أكثر إلحاحًا من أجل استراتيجية خروج، مما قد يؤثر بدوره على استعداد أفراد الاحتياط للاستدعاء.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور