في الذكرى الأولى لتوقّف الحرب الواسعة على لبنان، التي استمرت 66 يوماً شهد فيها لبنان ألواناً مختلفة من التهجير والتدمير والهمجية الصهيونية، وانتهت بعودة الأهالي فوراً إلى الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع فور الإعلان عن وقف إطلاق النار في تمام الساعة 4 فجراً. لم ينتظر الناس إعادة إعمار ما تهدم من بيوتهم ولا فتح الطرق؛ عادوا لأنهم يدركون أن البقاء هو فعل مقاومة بحد ذاته، وأن من واجبهم التواجد في أرضهم التي سقيت بالدماء. ليسقط مشروع التهجير الذي يحاك لأبناء الطائفة الشيعية منذ الاحتلال الفرنسي وصولاً إلى حرب 2006 و2024 حيث ازداد الحديث عنه في اللحظة التي قرر فيها الناس العودة.
جذور مشروع التهجير
لم يكن استهداف الطائفة الشيعية حديث النشأة، حيث بدأ باتخاذ شكل ممنهج مع الاحتلال الفرنسي للبنان -رغم تواجد المخطط من قبل-. تعاملت سلطات الاحتلال الفرنسي مع مناطق الشيعة بوصفها "أطرافاً غير منتجة"، وبدأت باعتماد سياسة تهميشية دفعت بأعداد كبيرة من أهل الجنوب والبقاع نحو الهجرة الداخلية والخارجية. حيث ظهرت وثائق وتصريحات متفرقة لمسؤولين فرنسيين تشير بوضوح إلى رغبتهم في نقل ثقل الشيعة بعيداً عن المناطق التي يتواجد فيها فئات من طوائف أخرى، وتغيير ديموغرافيا جبل عامل، انسجاماً مع رؤية فرنسا لمنطقة نفوذ تعتبرها أكثر استقراراً بالنسبة إليها.
خلال تلك المرحلة، شهد الجنوب مجازر وعمليات تنكيل دفعت السكان إلى النزوح المؤقت، أبرزها اعتداءات الجنود الفرنسيين في بنت جبيل والنبطية والقرى الحدودية. الهدف غير المعلن كان دفع السكان إلى اليأس من إمكانية البقاء، وإغراءهم بالانتقال أو الهجرة نحو العراق وإيران حيث يوجد امتداد واسع للطائفة الشيعية. إلا أنّ هذه السياسات، بدل أن تُضعف الناس زادتهم تمسكاً، وعززت شعورهم بأن وجودهم في أرضهم هو معركة بقاء.
بعد احتلال فلسطين عام 1948، وجد شيعة الجنوب أنفسهم أمام عدو مباشر مرة أخرى بلا حماية من الدولة اللبنانية. حيث طالت هجمات العصابات الصهيونية وعمليات الخطف والقتل المزارعين والرعاة وكانت جزءاً من ضغط يهدف إلى تفريغ الشريط الحدودي. عُرفت تلك الفترة باعتداءات "الحدود السائبة"، حيث تعمد العدو ترهيب القرى لإفراغها وخلق منطقة عازلة.
رغم ذلك، بقي أهالي القرى الحدودية ثابتين في قراهم. ومع ظهور حركة الإمام موسى الصدر في سبعينيات القرن الماضي، تحوّل البقاء الشيعي في الأرض إلى مشروع وعي، وإلى فعل سياسي واجتماعي مقاوم. حينها فقط أدرك العدو أنّ تحويل الجنوب إلى منطقة فارغة وإقصاء الشيعة الذين لمس فيهم الخطر على مشروعه الاستعماري لم يعد ممكناً.
حرب تموز 2006
في عام 2006 عادت الخطة إلى واجهة القرار الإسرائيلي الذي كان يعتقد بضرورة محو الضاحية لإجبار أهلها على الرحيل، كذلك الجنوب يجب أن يتحول إلى مساحة خالية تُدار أمنياً عبر الاحتلال. استهدفت حينها الضاحية بعشرات الغارات، وارتكب العدو مجازر قانا ومروحين وسحمر وغيرها، كان أحد الأهداف حينها -طبعا إلى جانب ضرب قدرات المقاومة- عملية تهجير كبرى ضد شيعة لبنان.
لكنّه المشروع نفسه سقط بعد ساعات من وقف إطلاق النار، حين عاد عشرات الآلاف إلى بيوتهم قبل أن تصل الجرافات والدولة ومنظمات الإغاثة.
حرب 2024: تكرار السيناريو ذاته
في حرب 2024، عاد الاحتلال ليجرب الخطة في سياق حربه على لبنان. حيث ركز على إلحاق أعلى قدر من الضرر بالقرى، وعمل على نسف قرى بأكملها مثل محيبيب، وتعرض البقاع لغارات غير مسبوقة ومجازر. وكان واضحاً أن الاحتلال يريد عرقلة العودة بعد الحرب لأبناء هذه المناطق. لإعادة طرح مشروع التهجير التاريخي بحيث تفرغ مناطق الشيعة من بحجة أنها أصبحت غير قابلة للعيش.
ومع أن النزوح هذه المرة طال أعدادًا كبيرة بسبب شدة القصف، إلا أن العودة بعد وقف إطلاق النار كانت أسرع من أي توقعات. لم تمر ساعات حتى فتحت القرى أبوابها، وبدأ الناس بتنظيف الشوارع وإعادة فتح المحال، في مشهد أسقط الرهان السياسي والعسكري لدى الاحتلال.
لماذا يبقى مشروع التهجير مطروحاً؟
الدافع الأساسي هو تغيّر موقع الطائفة الشيعية بعد 1948 خصوصاً في الجنوب. فمع تركهم بلا حماية، وجد الناس أنفسهم أمام خيارين إما العيش بارتهان تحت سطوة الاحتلال، أو تطوير قوة ذاتية تردعه. فاختاروا المقاومة وبدأت معالمها تظهر أكثر فأكثر حتى التحرير عام 2000 حيث صدم العالم مما صنعه تنظيم عجزت عن صنعه دول كبرى. هذا التحول جعلهم في مركز الاشتباك مع المشروع الإسرائيلي، وبالتالي في قلب الاستهداف.
الاحتلال يدرك أن هذه البيئة هي الخزان البشري والسياسي والعقائدي الذي جعل الحدود اللبنانية الفلسطينية خطاً أحمر، ومنع "إسرائيل" من تحقيق حلمها التاريخي بإقامة منطقة عازلة تمتد حتى نهر الليطاني. لذلك يستمر التفكير بتهجير الشيعة كجزء من مشروع استراتيجي يهدف لنزع الحاضنة الشعبية للمقاومة. وفي كل مرة سيلاقي هذا المخطط فشلاً لأن تجذر هذا المجتمع بأرضه صار أكبر وأشد رسوخاً حيث بات يرى بأن الحفاظ على وجوده شكل من أشكال المقاومة.
الكاتب: غرفة التحرير