الأحد الأسود، اليوم الذي تحوّل إلى علامة فارقة في معركة أولي البأس، سقطت الفرضيات الإسرائيلية القائمة على التباهي بالقوة البرية، وتبدلت الأدبيات العسكرية للعدو تحت ثقل الوقائع الميدانية. فبعد شهرين من المناورة البرية التي أعلنها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، رافقتها حملة نفسية ضخمة ادّعت تحييد قدرات حزب الله وتدمير بنيته القتالية، جاء هذا اليوم ليشكّل انقلابًا في الصورة: تل أبيب تحت النار، دبابات الميركافا تحترق، والشمال الإسرائيلي يتهاوى تحت ضربات نوعية.
تحليل هذا اليوم لا ينطلق من توصيف كثافة العمليات فحسب، بل من قراءة طبيعة توزيع الضربات، واستخدام تعدد الجبهات، واستهداف مراكز الثقل العملياتي والنفسي للعدو في وقت واحد. فقد نفذت المقاومة الإسلامية50 عملية عسكرية متوازية خلال ساعات محدودة، ما يشير إلى قدرة واضحة على التنسيق العملياتي، وعلى التحكم بجبهات متعددة من البر والجو وبأدوات متنوعة.
على المستوى البري، ظهر عنصر المباغتة والسرعة في عمليات تدمير دبابات الميركافا، وهي التي تُعتبر العمود الفقري للقوة البرية الإسرائيلية. ففي أطراف بلدتي البياضة وديرميماس، تحركت الوحدات الإسرائيلية ببطء وثقة، انطلاقًا من افتراض أنّ سيطرتها البرية صارت قائمة، إلا أن الرماة الماهرين في المقاومة كانوا يرصدون بصمت، منتظرين اللحظة المناسبة. خلال نصف ساعة فقط، تم تدمير أربع دبابات، تبعها تدمير دبابة خامسة حاولت سحب المدرعات المتضررة. هذه المشاهد تكشف عاملين أساسيين، الأول: دقة رصد مسارات المدرعات الإسرائيلية والثاني: فعالية منظومة الصواريخ المضادة للدروع لدى المقاومة، والتي تعمل بمرونة عالية في تضاريس مركبة.
لم تكن هذه الاشتباكات تكتيكية صِرفة، بل كانت سياسية بامتياز، إذ أرادت المقاومة القول إنّ أي محاولة إسرائيلية لبناء نطاق أمني بري داخل جنوب لبنان ستكون مكلفة ومحدودة الأمد، وأن العدو لا يمكنه تثبيت وجود ميداني دون دفع فاتورة بشرية ومادية مرتفعة.
الأحد الأسود لم يكن ساحة برية فقط، بل كان أيضاً استعراضاً لمدى عمق الرقعة النارية التي تمتلكها المقاومة. فقد طال القصف الصاروخي مواقع ذات حساسية عالية في شمال فلسطين المحتلة، كقواعد القيادة والاستخبارات والدفاع الجوي: بيريا، دادو، ميشار، شراغا، زوفولون، ومعسكرات التدريب والمدفعية في ديشون وجعتون. ويعني استهداف هذه المواقع أنّ المقاومة لا تتعاطى بمنطق "الرد بالمثل"، بل بمنطق "تعطيل الوظيفة القتالية للعدو". فالضربة هنا ليست مدمرة عسكريًا فحسب، بل تعيق قدرة الجيش على التخطيط والمعلومة والاتصال واتخاذ القرار.
ثم ننتقل إلى مستوى أخطر: دخول العمق الإسرائيلي الحقيقي داخل دائرة النار. فتحت شعار عمليات "خيبر"، جاءت الضربة المركبة على تل أبيب، والتي جمعت بين صواريخ نوعية ومسيّرات انقضاضية. هذه الهجمة المزدوجة تشير إلى منظومة عسكرية لا تكتفي بالمديات القصيرة أو المتوسطة، بل تمتلك القدرة على تنسيق هجمات على بعد 100 إلى 150 كيلومتراً عن الحدود.
استهداف قاعدة غليلوت، حيث وحدة 8200 الاستخباراتية، كانت رسالة مباشرة إلى قلب المنظومة الأمنية للجيش الإسرائيلي. إنّ ضرب مصدر المعلومة ذاته، هو ضرب لقدرة الجيش على المعرفة والتحليل والاستباق. كذلك استهداف قاعدة حيفا البحرية وأسطول الزوارق والغواصات، يعني ضرب الذراع البحرية التي تعتمد عليها إسرائيل في الحركة والمراقبة والسيطرة الساحلية. أما ضرب قاعدة أشدود البحرية للمرة الأولى بطائرات مسيّرة قادمة من لبنان، فهو يعيد تعريف معادلة الاشتباك: لم يعد الشمال الإسرائيلي تحت النار فقط، بل الأطراف الجنوبية للكيان أيضًا.
هذه العمليات، بمجملها، أنتجت حالة انهيار نفسي في الداخل الإسرائيلي، حيث اعترفت وسائل إعلام العدو بأن 4 ملايين مستوطن دخلوا الملاجئ، وأن أكثر من 340 صاروخاً أُطلق خلال ساعات قليلة، وصلت بعضها إلى تل أبيب. وحتى لو حاولت الرواية الإسرائيلية التقليل من الخسائر البشرية، فإن ما لا يمكنها إخفاؤه هو حجم الذعر الشعبي وتعطل الحياة العامة والخلل الذي أصاب القيادة العسكرية.
من زاوية تحليلية أعمق، الأحد الأسود كشف ثلاث حقائق استراتيجية: أولًا، أنّ المناورة البرية الإسرائيلية فشلت في فرض واقع جديد داخل جنوب لبنان، ثانياً، أن منظومة الردع الإسرائيلية التي بُنيت لعقود كسرت في ذلك اليوم. ثالثًا، أن المقاومة تمتلك القدرة على نقل الحرب من الأطراف إلى المركز، وعلى قلب اتجاه الضغط: من الشريط الحدودي إلى تل أبيب.
وفي الختام، لا يمكن التعامل مع الأحد الأسود كحادثة عابرة أو يوم عمليات مكثف، بل كمفرق سبب في دفع توقّف إطلاق النار، وكتحول في فلسفة المواجهة، يوثّق بالدم والوعي معًا أنّ المقاومة ليست في موقع الدفاع فحسب، بل في مرتبة الفعل الاستباقي، وأن الذاكرة الوطنية التي تُكتب اليوم ستصبح جزءًا من سردية كبرى تقول: هناك من لم يُهزم، وهناك من ثبّت معادلة الأرض والكرامة بصلابته وقدرته على قلب الموازين.
الكاتب: غرفة التحرير