الخميس 27 تشرين ثاني , 2025 12:30

الاضطرابات النفسية: اعادة تشكيل لمستقبل الشارع الاسرائيلي؟

تتبلور داخل كيان الاحتلال اليوم ملامح أزمة نفسية واجتماعية غير مسبوقة، تكشف عن هشاشة البنية الداخلية التي تقف خلف المشهد السياسي والأمني الذي يتم الترويج له. فمع الحرب المستمرة منذ 7 اكتوبر، لا تقتصر تداعيات المواجهة على الخسائر العسكرية والسياسية، بل تمتد لتضرب العمق المجتمعي للاحتلال، محدثة تصدعات بات من الصعب احتواؤها بالإجراءات التقليدية. التحذيرات التي أطلقها آلاف المتخصصين في مجال الصحة النفسية خلال الأيام الماضية لافتة.  إذ خرجت فئات مهنية كانت تاريخياً بعيدة عن سجالات السياسة لتعلن حالة "طوارئ نفسية واجتماعية غير مسبوقة"، في تعبير يعكس حجم المأزق.

اللافت في البيان الذي أصدره عشرات الآلاف من المعالجين وعلماء النفس والأطباء النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين هو طبيعته من حيث الشدة والنبرة والتوقيت. فالمؤسسات المهنية في إسرائيل غالباً ما تلتزم خطاباً تقنياً أو نقدياً محدوداً، غير أنها هذه المرة تعمدت توجيه تحذير مباشر إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مطالبة بخطوات عاجلة لمعالجة "الجرح النازف"، وفق توصيفهم. وتكشف الرسالة أنّ الأزمة تجاوزت حدود الضغط الاعتيادي الناتج عن الحروب، لتتحول إلى حالة انهيار نفسي شامل تصيب الفرد والمجتمع معاً.

يأتي جوهر التحذير من أن الضغوط المرتبطة بحرب طويلة، وما تلا السابع من أكتوبر من انهيار في منظومة الثقة، أنتجت موجات متراكمة من اضطرابات ما بعد الصدمة. ورغم أن أصوات المصابين بهذه الاضطرابات ارتفعت منذ الأسابيع الأولى للحرب، فإن دخول الجسم المهني بكل أطيافه إلى الخطاب العام يعكس بلوغ الأزمة مستوى لم يعد ممكناً تجاهله. وبحسب ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، اجتمع المعالجون لتحذير الحكومة من كارثة نفسية تهدد "الروح الإسرائيلية" نفسها، في إشارة إلى تفكك مكونات الهوية الجمعية التي طالما تغذت على مفهوم الأمن.

تعاني منظومة الصحة النفسية في كيان الاحتلال من إهمال تاريخي في البنية التحتية والكوادر والميزانيات، وهو عامل يضاعف تأثير الأزمة الحالية. وبرغم الجهود التي بذلتها وزارة الصحة وصناديق المرضى خلال العامين الماضيين لرفع القدرة الاستيعابية، إلا أن الفجوة بين حجم الطلب والإمكانات المتاحة ما تزال واسعة، ما يجعل أي استجابة عاجلة غير قادرة على مواكبة الارتفاع الهائل في أعداد المتضررين. هذا الخلل الهيكلي يحوّل الأزمة الحالية إلى وضع صعب ومستمر، حيث يتوقع المتخصصون تفاقماً أكبر خلال الفترة المقبلة مع استمرار الحرب وغياب أفق سياسي واضح.

سياسياً، تعكس هذه التطورات حدود قدرة القيادة الإسرائيلية على إدارة تبعات المواجهة في غزة والجبهات الأخرى. فالأزمة النفسية ليست ملفاً صحياً فقط، بل تنتقل سريعاً إلى المجال السياسي عبر تآكل الثقة بالحكومة وارتفاع مستوى الاحتقان الداخلي. اذ إن الغياب المستمر لاستجابة واسعة ومنتظمة لمعالجة الصدمات المتراكمة يُضعف قدرة الحكومة على الحفاظ على التماسك المجتمعي، ويعزز شعور الفئات المتضررة بأنها تُركت وحيدة أمام تجربة نفسية قاسية. وفي مجتمع يعاني أصلاً من انقسامات سياسية عميقة، يفتح هذا الواقع الباب أمام تآكل إضافي في العقد الاجتماعي.

كما أن الانعكاسات الاجتماعية للأزمة تتجاوز الجانب الفردي. فاضطرابات ما بعد الصدمة، وفق توصيف المعالجين، لم تعد حالات متفرقة، بل تحولت إلى ظاهرة جماعية تطال المدنيين والجنود على حد سواء. هذا التداخل بين الجبهة العسكرية والجبهة الداخلية يخلق سلسلة من الاختلالات داخل المجتمع، حيث يتراجع الأداء الوظيفي، وتزداد التوترات داخل الأسر، ويصعب على المؤسسات التعليمية التعامل مع بيئة يغلب عليها القلق والخوف. ومع مرور الوقت، تتعمق آثار هذه الصدمات لتصبح جزءاً من السلوك المجتمعي اليومي، وهو ما يهدد الاستقرار الداخلي على المدى المتوسط.

بالتالي، تتجاوز الأزمة الحالية إطار الحرب المباشرة لتصبح جزءاً من مستقبل المجتمع الإسرائيلي نفسه. فغياب الرؤية الحكومية لإدارة هذه التداعيات وعمق الأزمة النفسية الممتدة منذ 7 أكتوبر يضعان الاحتلال أمام تحديات قد تكون أثقل من تبعات المواجهة العسكرية ذاتها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور