الثلاثاء 23 أيلول , 2025 03:44

روح التحدي عند البيئة الحاضنة للمقاومة

المقاومة وبيئتها وجهان لعملة واحدة

حين نتأمل مسار العقود الماضية في لبنان، يتبيّن أن البيئة الحاضنة للمقاومة واجهت تحديات لم تواجهها أي بيئة أخرى. حيث أن هذه الفئة من اللبنانيين كانت وحدها المستهدفة دون سواها؛ أبناء الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية الذين اعتادوا أن يكونوا في خط المواجهة الأول مع ذلك، لم يلوذوا بالانعزال أو اليأس، بل حوّلوا التضحيات إلى رصيد وطني مشترك، فدافعوا عن الأرض والناس جميعاً، إيماناً منهم بالقضية التي حملوها عن قناعة وتجربة. هذه القناعة لم تنبت فجأة، بل كانت حصيلة عوامل متشابكة، على رأسها الاحتلال الإسرائيلي لقرى الجنوب الحدودية مع فلسطين المحتلة وما خلفه من معاناة عميقة عاشها الناس عن قرب، إضافة إلى التجربة الحية مع المقاومة التي أثبتت بالعمل المقاوم قدرتها على تحرير الأرض واستعادة الكرامة.

الجذور التاريخية: علاقة الناس بالمقاومة

منذ بدايات المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، تشكّل رابط عضوي بين الأهالي والمقاومة. لم تكن المقاومة يوماً جسماً منفصلاً عن الناس، بل ولدت من رحمهم ورافقتهم في معاناتهم وتجاربهم اليومية. فقد خبر سكان الجنوب مرارة الاحتلال من اقتحامات، اعتقالات، مجازر، وتهجير، ورأوا بأعينهم كيف تُسلب الأرض وتُدنّس الكرامة. في هذا السياق، لم يكن خيار المقاومة مجرد طرح سياسي، بل صار ضرورة وجودية. شيئاً فشيئاً، تحولت هذه القاعدة الشعبية إلى نواة صلبة تمنح المقاومة قوتها، وتوفّر لها الشرعية المجتمعية، حتى صار يُنظر إليها بوصفها الركيزة الأولى التي انطلقت منها المقاومة واستمدت منها صلابتها. لم يكن الأهالي مجرد داعمين، بل صاروا شركاء في المسار كله، يدفعون أبناءهم إلى الجبهات، ويقدّمون شهداء وجرحى، ويحملون على عاتقهم عبء إعادة البناء بعد كل عدوان.

الاستهداف الممنهج للبيئة

ولم يتوانى العدو عند وعيه بطبيعة هذه العلاقة عن استهداف البيئة الحاضنة بشكل مباشر. فمنذ بداية المواجهات وحتى يومنا هذا، كان الجنوب والضاحية والبقاع مسرح الاعتداءات الإسرائيلية. الهدف لم يكن فقط إضعاف المقاومة عسكرياً، بل كسر الرابط بينها وبين بيئتها. فالقصف المركّز على الأحياء السكنية، واستهداف العائلات والأطفال، وفرض الحصار الاقتصادي والمعيشي، كلها أدوات وظّفها العدو لزرع الشك والخوف والانقسام داخل هذه البيئة. حاول الاحتلال أن يخلق شرخاً بين المقاومة وجمهورها، وأن يدفع الناس إلى المطالبة بالتخلي عن الخيار المقاوم حفاظاً على حياتهم وأرزاقهم. وفي مراحل لاحقة، لم يتردد في استخدام الحرب النفسية والإعلامية لتصوير هذه البيئة على أنها متروكة ومعزولة عن بقية اللبنانيين، بهدف دفعها نحو الاستسلام أو الانكفاء.

نتائج معاكسة لمخططات العدو

لكن الوقائع جاءت عكس ما خطط له العدو. فبدل أن ينجح في تفكيك هذه البيئة، زادها استهدافه تماسكاً وصلابة. ومع كل حرب، كانت دائرة الالتفاف حول المقاومة تتوسع، لتصبح المقاومة وجهاً آخر لهذه البيئة، لا يمكن فصلها عنها. حتى صار كل فرد في هذه البيئة يرى نفسه مقاوماً بالمعنى المباشر أو الرمزي. عبر تقديم الشهداء أو الدعم المادي أو التأييد السياسي، تكرّس مفهوم أن المقاومة وبيئتها وجهان لعملة واحدة، لا يمكن ضرب أحدهما دون أن يتقوّى الآخر. وهكذا، انقلبت طموحات العدو إلى نتائج عكسية وتولد المزيد من الالتصاق، والقناعة بأن خيار المقاومة هو الضمانة الوحيدة.

جاءت حرب أيلول/سبتمبر 2024 لتؤكد هذه الحقيقة مجدداً. فالاعتداءات التي شنها العدو لم تضعف البيئة الحاضنة، بل عمّقت روح التحدي فيها. على الرغم من حجم الدمار، والاغتيالات التي طالت قادة بارزين في المقاومة، وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصر الله، لم تُظهر هذه البيئة أي نزعة للتراجع. بل العكس، كان موقفها أكثر وضوحاً بالمطالبة بالحفاظ على السلاح، في مفارقة صادمة للعدو الذي كان يراهن على العكس تماماً. كان يظن أن الألم سيدفع الناس إلى رفض استمرار المواجهة، لكن ما حصل أن السلاح لم يعد حكراً على الفرق العسكرية، بل أصبح جزءاً من هوية هذه البيئة التي تراه أداة لحماية وجودها وضمان مستقبلها. لقد أذهلت هذه المواقف العالم، إذ أثبتت أن الاستهداف مهما كان قاسياً لن يقلل من عزيمة الناس، بل سيضاعف إصرارهم على المضي في المسار الذي تبنوه.

هكذا، أثبتت البيئة الحاضنة للمقاومة أنها ليست مجرد قاعدة جماهيرية يملكها حزب الله كما يملك باقي الأحزاب، بل هي الفاعل الحقيقي في صناعة المعادلات. فمنذ نشأتها واجهت أصعب الظروف وتحولت إلى بيئة تتحدى ولا تُهزم. كلما حاول العدو كسرها، أمدّته بالمفاجآت؛ وكلما راهن على انقسامها، أثبتت وحدتها. إنها بيئة حملت مشروع المقاومة في وجدانها وواقعها، وقدّمت له الشرعية الشعبية التي لم يستطع العدو أن ينتزعها. لذلك، ستبقى هذه البيئة الركيزة التي تبنى عليها المواجهة، والوجه الصلب الذي يحفظ لبنان في أعتى المراحل.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور