في غزة، لم تكن الحرب مجرد مواجهة عسكرية، بل تحولت إلى اختبار قاسٍ لقدرة المجتمع على الاستمرار في ظل انهيار منظّم لبنيته القانونية والأمنية. فعندما تُقصف مراكز الشرطة، وتتوقف المحاكم، وتُشل النيابات العامة، وتختفي جهة الفصل القانوني بين الناس، يصبح الأمن مسألة ذاتية، ويميل المجتمع إلى البحث عن بدائل طارئة لحماية نفسه، خارج الإطار الرسمي.
ومع امتداد العدوان، لم يعد التحدي محصورًا في حجم الدمار أو عدد الضحايا، بل في تفكك الشعور بالأمان، وتآكل الثقة بالنظام العام، وظهور مظاهر الفلتان، وتغيّر طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الغزّي. هنا يصبح الأمن المجتمعي ليس مجرد مفهوم نظري، بل تجربة معيشة يومية: كيف يحمي الفرد نفسه؟ من يؤمّن الحقوق؟ ومن يمتلك سلطة الردع والعدالة؟
بهذا المعنى، يصبح استهداف مؤسسات إنفاذ القانون أحد أكثر وجوه الحرب تأثيرًا ومدىً، لأنه يمس الجوهر: الشعور بالأمان، والقدرة على اللجوء إلى جهة محايدة، والإحساس بأن هناك قانونًا يقف بين المجتمع والفوضى. ومن هنا يمكن فهم كيف انتهت الحرب إلى لحظة مفصلية أعادت تشكيل العلاقة بين المجتمع والسلطة والقانون، وأعادت تعريف معنى الأمن في ظل غياب الدولة وسيادة القوة.
في هذا الإطار، أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علمية بعنوان "تأثير الحرب الإسرائيلية على الأمن المُجتَمعي في قطاع غزة: دراسة حول تحدّيات تعطيل جِهات إنفاذ القانون 2023-2025"، أعدّها الباحثان ضياء نعيم الصفدي وبكر عبد الحميد الضابوس، تناولت التحوّلات العميقة التي شهدها قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية، وما نتج عنها من انهيار خطير في منظومة الأمن المجتمعي نتيجة استهداف أجهزة إنفاذ القانون بشكل منهجي.
وبيّنت الدراسة أن الاحتلال الإسرائيلي عمل، منذ 2023/10/7 وحتى دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 2025/10/10، على تقويض الأمن المجتمعي باعتباره أحد أركان وأبعاد مبدأ الأمن الإنساني، عبر قصف مراكز الشرطة، وقتل الضباط، وتدمير المحاكم والنيابات العامة، ونقابة المحامين، والمؤسسات الحقوقية، بهدف تفكيك النظام القانوني في غزة وتعميق حالة الفوضى والانفلات الأمني.
وكشفت الورقة أنّ تعطيل جهات إنفاذ القانون أدى إلى انهيار شبه كامل لمنظومة العدالة، وانسحاب الأجهزة الأمنية من أداء واجبها نتيجة التدمير المباشر، مما مهّد لانتشار السطو والنهب المسلح، وتزايد الجرائم التي تستهدف الممتلكات العامة والخاصة، وغياب العقوبات الرادعة، الأمر الذي أوجد واقعاً أمنياً معقداً يهدّد الاستقرار المجتمعي.
وخَلُصت الدراسة إلى أنّ إعادة الأمن المجتمعي إلى قطاع غزة لن يتحقق إلا عبر استراتيجية متكاملة تجمع بين الدعم الدولي، والرقمنة القضائية، والمحاسبة القانونية، وتمكين المجتمع المحلي، بما يضمن إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات القانونية وتعزيز مقومات الأمن والاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. ضياء نعيم الصفدي وأ. بكر عبد الحميد الضابوس