الأربعاء 26 تشرين ثاني , 2025 03:43

"مفهوم التفاوض" لدى الاحتلال لا يعول عليه

التفاوض مع الاحتلال وهم لا يراهن عليه

منذ انتهاء التصعيد الأخير على الجبهة اللبنانية، يَظهر رهانٌ رسميّ لبناني على إمكانية الوصول إلى مفاوضات توقف الاعتداءات الإسرائيلية وتعيد الهدوء إلى الجنوب. غير أنّ هذا الرهان يصطدم بواقعٍ صارخ حيث أن مفهوم التفاوض لدى الاحتلال لا يشبه ما يتبادر إلى ذهن الدولة اللبنانية. فالتفاوض بالنسبة لـ "إسرائيل" ليس مساراً لتثبيت الاستقرار، ولا إطاراً لاحترام السيادة، بل أداة لإدارة العدوان بشكل آخر، واستثمار للوقت، وفرض الشروط بالقوة. لذلك، فإن التعويل على تفاوض يضمن وقف الخروقات لن يؤدي إلى النتيجة المرجوّة، ما لم يقترن بامتلاك لبنان لعناصر القوة والردع التي تجعل الاحتلال مضطراً للالتزام.

معياران متناقضان

ترى الدولة اللبنانية أن التفاوض هو وسيلة للتوصل إلى تفاهم ثابت يُلزم الطرفين، ويضع حداً للاعتداءات، ويُرسّخ قواعد اشتباك واضحة. لكن الاحتلال يتعامل مع التفاوض باعتباره مشهداً مكملاً للحرب. في العقل الإسرائيلي، الاتفاق ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لشراء الوقت، وتجميع المكاسب السياسية والميدانية، وخلق واقع جديد على الأرض قبل أي التزام محتمل.

ولذلك، كلما دخل كيان الاحتلال في مسار تفاوضي، كان هدفه الأساسي هو تجنّب أي انسداد تام قد يدفع الخصم نحو خيارات أشد.

الأسس الحاكمة للسلوك التفاوضي الإسرائيلي

السلوك الإسرائيلي في التفاوض ليس عشوائياً، بل يقوم على مجموعة ثابتة من القواعد التي أثبتت التجربة أنها تُطبّق في كل مسار تفاوضي، عربياً كان أو فلسطينياً أو لبنانياً. أبرز هذه القواعد:

غياب أي التزام مسبق

يحرص الاحتلال على عدم تقديم خطة واضحة أو رؤية متكاملة للتسوية، ويترك مبادراته في خانة "الأفكار" التي يطلقها سياسيون أو عسكريون من دون أن تكون ملزمة. الهدف هو الإبقاء على مساحة المناورة واسعة قدر الإمكان

تحويل العملية التفاوضية إلى مسار بلا أفق

يُفضّل الاحتلال عملية تفاوضية مفتوحة، تُبقي الطرف الآخر في حالة انتظار دائم، بينما يستمر هو بفرض الوقائع عبر الاعتداءات أو الاستيطان أو فرض شروط جديدة.

انتزاع أكبر قدر من التنازلات

كل تنازل يقدمه الطرف المقابل للاحتلال يصبح "حقاً مكتسباً" للإسرائيلي، يبني عليه ليطالب بما هو أكثر، من دون أن يقدم مقابلاً حقيقياً.

هندسة مفاوضات غير رسمية لانتزاع تنازلات مسبقة

يسعى الاحتلال دائماً إلى تفاهمات جانبية أو مسارات خلفية لا تلزمه بشيء، لكنه يستخدم ما ينتزع خلالها من تنازلات لتكون أساساً في أي مفاوضات لاحقة حتى لو كانت مباشرة.

استخدام الضغط الميداني كجزء من التفاوض

اغتيالات، اعتداءات مستمرة، تهديدات، خروقات جوية يومية، وضغط على المدنيين… كلها أدوات يستخدمها الاحتلال لإجبار الطرف المقابل على القدوم إلى الطاولة وهو في أضعف حالاته.

فصل المسارات ومنع أي مرجعية دولية

يرفض الاحتلال أي تدخل أممي أو دولي يمكن أن يفرض عليه التزامات قانونية، ويفضل مفاوضات ثنائية تمكّنه من تحديد السقف الذي يناسبه.

 تجزئة الملفات وإغراق الطرف الآخر في التفاصيل

يعتمد الاحتلال على تقطيع القضية إلى أجزاء، وإشغال الطرف المقابل بتفاصيل جانبية.

أمثلة تثبت أن الاحتلال لا يسعى إلى اتفاق حقيقي

التاريخ الفلسطيني والعربي مليء بمحطات تظهر بوضوح أن الاحتلال لا يدخل التفاوض بهدف الوصول إلى حل، من ضمن هذه النماذج:

أوسلو

فبينما كانت المفاوضات مستمرة، ضاعفت "إسرائيل" الاستيطان، ورسخت سيطرتها على الأرض، مستخدمة الاتفاق كغطاء لخلق وقائع جديدة. والآن تتلاشى كل معالم الاتفاق بفعل الاعتداءات المستمرة في مناطق الضفة الغربية.

 غزة

التفاوض اليوم في غزة يظهر وكأنه فرصة لتوسيع العدوان وتحقيق ما لم يتحقق في الحرب ونزع سلاح حماس وليس "خطة سلام" على الإطلاق في ظل استمرار المجازر وسياسة التجويع والحصار ضد أهالي غزة، ما يؤكد أن الاحتلال يستخدم وقف إطلاق النار كمرحلة تحضيرية لجولات أعنف.

الجبهة اللبنانية اليوم

بينما يلتزم حزب الله بوقف إطلاق النار وتعلن الدولة اللبنانية رغبتها في "التهدئة والتفاوض"، تتوسع الاعتداءات في الجنوب حتى وصلت الأسبوع الماضي لتطال الضاحية الجنوبية. هذا السلوك يعكس أن مفهوم التفاوض لدى الاحتلال ليس وقف النار، بل الاستمرار في التصعيد والحرب لكن بأدوات أخرى.

لماذا لا يمكن للبنان أن يحقق "وقف اعتداءات" بلا قوة؟

التجارب اللبنانية والفلسطينية تؤكد أنّ الاحتلال لا يلتزم بأي اتفاق طوعاً. فالانسحاب من الجنوب عام 2000، مثلاً، لم يكن نتيجة مفاوضات أو وساطات، بل نتيجة كلفة عسكرية وسياسية فرضتها المقاومة على الاحتلال. وكذلك انسحابه من غزة عام 2005 جاء بعد استنزاف طويل.

كل ذلك يثبت أن الاحتلال لا يخضع إلا أمام من يملك القدرة على فرض التوازن. أما التفاوض من موقع ضعف لا ينتج عنه شيئاً ولا يبدل الأحوال، لذلك فإن لبنان لن يستطيع وقف الاعتداءات عبر السياسة والدبلوماسية وما شابه، بل من خلال فرض معادلة ردع تجعل الاحتلال مجبراً — لا راغباً — على وضع حسابات للسيادة اللبنانية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور