بعد عامين على اندلاع الحرب على غزة، لم تعد "إسرائيل" تخوض معركة ضد المقاومة الفلسطينية فحسب، بل وجدت نفسها في مواجهة ضمير عالمي جديد لم يعد يقبل بالمنظومة الأخلاقية والسياسية التي منحتها شرعية لعقود. لقد انقلب المشهد: من "غزة المحاصَرة" إلى "إسرائيل المحاصِرة"، ومن دعايةٍ تهيمن على العقول إلى عزلةٍ تخنق الخطاب الصهيوني نفسه.
لقد كان السابع من أكتوبر لحظة انفجار لموازين القوى الرمزية في العالم، أكثر مما كان انفجاراً عسكرياً في جنوب فلسطين. ومنذ ذلك اليوم، بدأ العالم يُعاد تشكيله أخلاقياً -لا في الميدان فقط، بل في الجامعات، وفي السينما، وفي الشوارع، وفي ضمير جيل جديد يرى الحقيقة بلا وساطة.
سقوط السردية "الإسرائيلية"… وانتهاء زمن "الضحية المقدسة"
لم يكن ما جرى في غزة مجرّد مواجهة عسكرية، بل انهياراً لأسطورةٍ سرديةٍ بنتها "إسرائيل" بدقة منذ 1948. لعقودٍ طويلة، نجحت المؤسسة الصهيونية في تسويق ذاتها كـ"ضحية دائمة" في مواجهة "عنف عربي" بدائي، مستفيدة من ذاكرة الهولوكوست ومظلومية اليهود في أوروبا.
لكن حرب غزة 2023–2025 كسرت هذا الاحتكار الأخلاقي. فالمجازر اليومية التي بثّتها الهواتف قبل أن تصلها بيانات الجيش، والدمار الواسع الذي التقطته عدسات الصحفيين الدوليين، حوّل "إسرائيل" في نظر الجيل الغربي الجديد من "ضحية" إلى "جلّاد"، ومن كيانٍ للدفاع عن النفس إلى مشروعٍ استعماريّ استيطانيّ من الطراز الكولونيالي القديم.
إنّ "سلاح المحرقة" فقد فاعليته؛ لم يعد يخيف أو يردع، ولم يعد "اتهام معاداة السامية" قادراً على إسكات النقد أو حجب الجرائم. فقد انكشفت الازدواجية الغربية أمام شعوبها: كيف يمكن لمن يدّعي الدفاع عن الديمقراطية والحرية أن يغطي حرب إبادة على الأطفال؟
لقد تلاشى الخوف من كلمة "إسرائيل"، وبدأ العالم يستخدم مفردات لم يكن يجرؤ على نطقها: "الاحتلال"، "الإبادة"، "الفصل العنصري".
من طوفان الأقصى إلى طوفان الوعي
ما فعله الشهيد القائد محمد الضيف ورفاقه في السابع من أكتوبر لم يكن مغامرة عسكرية، بل تفجيراً فلسفياً لمعادلات الإدراك السياسي في العالم. كذلك أراد الشهيد يحيي السنوار أن يُخرج فلسطين من موقع الضحية الصامتة إلى موقع الفاعل التاريخي. وهذا ما كرره كثيرًا بأن أحد أهم أهدافه هو تحقيق عزله كامله للاحتلال الإسرائيلي.
والأهم أن هذا الحدث -رغم الكلفة الإنسانية الهائلة على الفلسطينيين- حرّر الوعي العالمي من سطوة الرواية "الإسرائيلية"، وأعاد تعريف "العدالة" و"الإرهاب" في المخيال الغربي.
اليوم، لم يعد الشباب في نيويورك وباريس وجوهانسبورغ يرددون مقولات الإعلام الأميركي، بل يصنعون شعاراتهم الخاصة: "From the river to the sea" أصبحت شعاراً عالمياً لا تخافه الجامعات، بل ترفعه كرمز للتحرر.
هكذا انتقل الصراع من الجغرافيا إلى الوعي، ومن حدود غزة إلى شوارع لندن وشيكاغو ومدريد، حيث خرجت الملايين تطالب بوقف الإبادة ورفع الحصار.
العالم بعد غزة: التاريخ يُكتب من جديد في عواصم الوعي
لقد أعادت الحرب على غزة تشكيل المشهد الثقافي والفكري في الغرب على نحو غير مسبوق منذ حرب فيتنام. في الجامعات، أصبح الدفاع عن فلسطين جزءاً من هوية الجيل الجديد، كما كانت مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الثمانينيات.
تغيّرت لغة النقاش: لم يعد السؤال "هل لإسرائيل حق في الدفاع؟"، بل أصبح "هل يمكن لدولة تمارس الإبادة أن تدّعي الشرعية الأخلاقية؟".
في أوروبا، بدأت الأصوات الأكاديمية والفكرية الكبرى -من الفلاسفة إلى علماء الاجتماع- تتحدث عن "انهيار النموذج الأخلاقي الغربي". لقد كتب المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود أن "غزة أصبحت مرآة تكشف للغرب انهيار إنسانيته الداخلية"، بينما أشار مفكرون كالأميركي كورنيليوس ويست إلى أن "الضمير العالمي استيقظ أخيراً، ولكن بعد أن شاهد ألف مجزرة في بث مباشر".
انكسار "إسرائيل" الثقافي: من هوليوود إلى الأكاديميا
في الستينيات والسبعينيات، كانت إسرائيل تملك نفوذاً هائلاً على هوليوود والإنتاج الإعلامي الغربي. كانت صورة العربي هي "الإرهابي"، والفلسطيني هو "المتخلف المتعطش للدم".
أما اليوم، فقد انقلب المشهد. هناك موسيقيون ومخرجون وكتاب يعلنون دعمهم لفلسطين بلا خوف.
من فرانشيسكا ألبانيس إلى روجر ووترز، ومن سوزان سارندون إلى آلاف الأكاديميين الذين وقّعوا بيانات مقاطعة الجامعات "الإسرائيلية"، تتشكل ثقافة جديدة تتحدى الرقابة وتفكك الرواية الصهيونية من داخلها.
حتى داخل "إسرائيل" نفسها، بدأت تظهر أعمال نقدية تكسر التابوهات، مثل فيلم "البحر" الذي يروي مأساة طفل فلسطيني ويُدين الاحتلال من قلب المجتمع "الإسرائيلي". ورغم محاولات وزير الثقافة ميكي زوهر منعه واتهام مخرجه بـ"الخيانة"، فاز الفيلم بجائزة محلية وتم ترشيحه للأوسكار، في مفارقة تعكس الانقسام الثقافي العميق داخل الكيان.
لقد فقدت "إسرائيل" احتكارها للسرد؛ لم تعد هي من تروي القصة، بل أصبحت القصة تُروى عنها - ومن خارجها.
عزلة الاحتلال: هدف تحقّق بلا وساطة
حين اعتُقل أسطول الصمود في البحر المتوسط -ذلك الذي ضم نشطاء من أكثر من عشرين دولة غربية- لم يكن الحدث مجرد انتهاك قانوني، بل لحظة رمزية تختصر ما آلت إليه صورة "إسرائيل".
وصفهم إيتمار بن غفير بأنهم "إرهابيون"، فهتفوا في وجهه بالإنجليزية: "Freedom for Palestine!"
هذا المشهد وحده يكفي لتلخيص التحول الأخلاقي في الوعي الغربي: نشطاء من أميركا وفرنسا وإسبانيا يُعتقلون على يد إسرائيل، ويُتهمون بالإرهاب لأنهم أرادوا كسر الحصار عن غزة.
إنها المفارقة التي لم تعد "إسرائيل" قادرة على تبريرها. لم تعد محمية بالخطاب الغربي الرسمي، ولا باللوبيات، ولا بالمؤسسات الإعلامية الكبرى. حتى تلك المؤسسات نفسها تواجه ثورات داخلية من صحفيين يرفضون الرقابة.
لقد أصبحت عزلة "إسرائيل" واقعاً ملموساً، ليس بفعل قرارات سياسية، بل نتيجة طوفان الوعي الذي لا يمكن قمعه.
من المشروع الصهيوني إلى أزمة الشرعية
أخطر ما تواجهه "إسرائيل" اليوم ليس المقاومة المسلحة، بل أزمة الشرعية الأخلاقية.
لقد كان المشروع الصهيوني يقوم على ثلاث ركائز: تفوق عسكري، دعم غربي غير مشروط، وهيمنة سردية تُشرعن هذا الدعم.
اليوم، تآكلت الثالثة، وتصدعت الثانية، وأصبحت الأولى بلا غطاء أخلاقي.
إنها أزمة وجودية، لأن الكيان الذي بُني على "الخوف" فقد قدرته على إقناع العالم بأنه يستحق البقاء خارج منطق القوة الغاشمة.
هذا ما يفسر الخوف "الإسرائيلي" الجديد: ليس الخوف من الصواريخ أو الأنفاق، بل من فقدان السيطرة على العقول.
ولأول مرة منذ 1948، يشعر "الإسرائيلي" أنه غريب في العواصم الغربية التي كانت ترفع أعلامه.
لم يعد آمناً في الجامعات، ولا في الملاعب، ولا في الشوارع الأوروبية التي كانت تصفق له.
انتصار الضمير
من طوفان الأقصى إلى طوفان الوعي، لم تعد إسرائيل تواجه جيوشاً بل تواجه جيلاً -جيلاً يرى في فلسطين مرآة للعدالة، وفي المقاومة تجسيداً للكرامة، وفي الاحتلال رمزاً للعار الإنساني.
هذا الجيل هو الذي يكتب اليوم التاريخ من جديد، لا في الميدان فحسب، بل في الكتب والأفلام والموسيقى والجامعات.
قد تملك إسرائيل طائرات "إف-35"، لكنها فقدت السلاح الأخطر: احتكار المعنى.
وقد تسيطر على "تيك توك"، لكنها لن تسيطر على الضمير.
لقد انتهى زمن "إسرائيل" كقصة بطولية في الوعي الغربي، وبدأ زمنها كحكاية استعمارية متأخرة تتهاوى أمام جيلٍ لا يؤمن إلا بالحرية.
ذلك هو التحول التاريخي الحقيقي: من الطوفان العسكري إلى الطوفان الأخلاقي.
جيل جديد يكتب -بهدوءٍ ووعيٍ وشجاعةٍ- نهاية المشروع الصهيوني.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com