في عالمٍ يزداد فيه تلوث الهواء بالكذب أكثر من الغازات الدفيئة، ظهرت فتاة سويدية تُدعى غريتا ثونبرغ لتقول للعالم ما لا يريد سماعه: الحقيقة. كانت البداية صرخة في وجه التواطؤ مع تغيّر المناخ، وانتهت اليوم بصرخة ضد الإبادة في غزة. المسافة بين القضيتين — البيئة والعدالة — لم تكن سوى اختبار للضمير الغربي، الذي أثبت مرة أخرى أنه لا يحتمل سماع الحقيقة، لا من مفكر ولا من فتاة في العشرينات.
فغريتا التي كانت يومًا تُصفَّق لها في الأمم المتحدة، صارت اليوم تُهان وتُعتقل وتُجبر على تقبيل علم الاحتلال الإسرائيلي. ما الذي تغيّر؟ لم تتغير غريتا، بل تغيّر السياق: انتقلت من معركة بيئية تُرضي الخطاب الغربي، إلى معركة إنسانية تُعرّيه.
الإبادة التي كسرت حاجز الصمت
لم يكن تضامن غريتا مع الشعب الفلسطيني حادثًا هامشيًا، بل تحوّلاً فلسفيًا في مسار الوعي الغربي ذاته. عندما وصفت الحرب "الإسرائيلية" على غزة بأنها "إبادة جماعية" ورفعت علم فلسطين، لم تكن فقط تعبّر عن رأي سياسي، بل كانت تُعلن تمرّد الضمير الغربي على نفسه.
فالغرب الذي قدّسها كرمزٍ لـ"الوعي الأخلاقي الجديد"، وجد نفسه فجأة أمام مرآةٍ تفضح نفاقه. كيف يمكن لمنظومةٍ تتغنّى بحقوق الإنسان أن تبرر تجويع مليونَي إنسان؟ وكيف يمكن لعواصمٍ ترفع شعارات البيئة والسلام أن تموّل الإبادة وتغطيها إعلاميًا؟
غريتا كشفت هذا التناقض في لحظة واحدة: حين وقفت في تظاهرة وقالت "لا عدالة مناخية من دون عدالة إنسانية". هذه الجملة البسيطة كانت بمثابة كسرٍ للتابو الغربي. لقد مزجت بين القضيتين اللتين يحاول النظام العالمي فصلهما: المناخ كرمز للنجاة، وفلسطين كرمز للذنب.
من الأيقونة إلى الخطر
كانت غريتا لسنوات أيقونة مثالية للغرب الليبرالي: شابة بيضاء، من الطبقة الوسطى، تتحدث بلغة القلق الوجودي عن "إنقاذ الكوكب". كانت جزءًا من سردية الغرب الذي يحب أن ينتقد نفسه دون أن يغيّر شيئًا. لكن حين خرجت هذه الأيقونة من حدود "القلق المسموح به" إلى "الاحتجاج المحظور"، تحولت إلى خطر.
السلطات الأوروبية التي كانت تكرمها وتستقبلها في البرلمانات، هي نفسها التي اعتقلتها لأنها تجرأت على الاعتراض على مشاركة "إسرائيل" في مسابقة الأغنية الأوروبية. تلك المفارقة ليست مجرد حادث بيروقراطي، بل تعبير عن جوهر الهيمنة الغربية: الحرية حقٌّ مطلق حتى تقترب من فلسطين. عندها تتحول إلى "تحريض".
الأنظمة التي سمحت لخطاب غريتا البيئي بالانتشار، كانت تفترض أنه سيظل "آمنًا"، أي لا يقترب من السياسة. لكنها نسيت أن العدالة لا تتجزأ. وحين مدّت غريتا بوصلتها الأخلاقية من المناخ إلى غزة، اصطدمت بالحدّ الأيديولوجي للنظام الليبرالي الغربي: أنت حر في قول الحقيقة، ما دامت لا تفضح حلفاءنا.
الضمير الغربي بين المناخ والاستعمار
من الناحية البنيوية، لا تختلف سردية "إنقاذ الكوكب" عن سردية "التحالف ضد الإرهاب". كلاهما يقوم على افتراض تفوقٍ أخلاقي للغرب يمنحه حق تحديد من يستحق الحياة. غريتا، دون أن تقصد ربما، عرّت هذا التفوق.
حين قالت إن العدالة المناخية لا يمكن فصلها عن العدالة الإنسانية، كانت تعيد تعريف العلاقة بين الشمال والجنوب، بين المستعمِر والمستعمَر. كانت تقول بلغة بسيطة ما يقوله فلاسفة ما بعد الاستعمار منذ عقود: إن النظام العالمي الذي ينهب موارد الجنوب باسم "التنمية" هو ذاته الذي يبرر قتل الأطفال في غزة باسم "الدفاع عن النفس".
لهذا السبب تحديدًا أصيب الغرب بالهستيريا: لأن غريتا نزعت عن خطابه قناع "الضمير الأخلاقي"، وكشفت أنه في جوهره ضميرٌ انتقائي. يصرخ من أجل كوكبٍ يحتضر، لكنه يصمت أمام شعب يُباد.
"إسرائيل" كأداة اختبار
إسرائيل لم ترَ في غريتا مجرد ناشطة بيئية متعاطفة مع غزة، بل رأت فيها تهديدًا لشرعية الخطاب "الإسرائيلي" ذاته. فهي ليست من الشرق الأوسط، ولا من "أعداء إسرائيل التقليديين"، ولا تنتمي إلى حزب سياسي يمكن تشويه نياته. إنها ابنة أوروبا، تنتمي إلى الجيل الذي كان يُفترض أن يورث "رواية المحرقة" كدرع أخلاقي "لإسرائيل".
عندما تُجبر سلطات الاحتلال غريتا على الزحف وتقبيل العلم "الإسرائيلي"، فهي لا تُهين ناشطة فقط، بل تُرسل رسالة إلى كلّ غربي: لا أحد فوق السردية الصهيونية، حتى لو كنتِ رمزًا للضمير العالمي.
ما يربك "إسرائيل" ليس أن غريتا تعاطفت مع غزة، بل أن خطابها الإنساني يجد صدًى لدى ملايين الشباب الغربيين. هؤلاء لا يحملون عقدة الذنب التاريخية تجاه اليهود، بل يرون في الفلسطينيين ضحايا منظومة استعمارية تُعيد إنتاج نفسها بلغة "الأمن".
التهديد الأيديولوجي الحقيقي
غريتا تمثل اليوم ما يخشاه الغرب أكثر من أي شيء: انقسام الضمير الأوروبي من الداخل. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، تظهر حركة شبابية في أوروبا لا ترى في "إسرائيل" "ملاذًا لضحايا"، بل "دولةَ احتلال". هذا التحول الأخلاقي، وإن بدا محدودًا، يُنذر بانهيار السردية الغربية التي بُنيت عليها شرعية القوة منذ 1945.
ولهذا تم التعامل مع غريتا كـ"عدو رمزي". الإعلام "الإسرائيلي" وصفها بـ"الطفلة المجنونة"، والسياسيون اتهموها بدعم "الإرهاب". هذه اللغة ليست جديدة؛ هي ذاتها التي استُخدمت ضد مانديلا، وضد كل من رفض الفصل العنصري.
لكن ما يجعل غريتا تهديدًا أعمق هو أنها لا تنتمي إلى أي تيار سياسي، ولا يمكن شراؤها أو إسكاتها. هي، ببساطة، تمثل الوعي المستقل الذي فقده الغرب في دوامة مصالحه.
من ستوكهولم إلى غزة: رحلة في الوعي
عندما جلست غريتا عام 2018 أمام البرلمان السويدي تحت المطر، لم تكن تتخيل أن رحلتها ستقودها إلى زنزانة "إسرائيلية" في أسدود. لكنها، في جوهرها، تخوض المعركة نفسها: معركة ضد نظامٍ اقتصادي وسياسي واحد، يُدمّر البيئة كما يُدمّر البشر.
الاحتباس الحراري ليس سوى وجهٍ آخر للحرب على غزة: كلاهما نتيجة نظامٍ عالمي يقوم على الاستغلال واللامبالاة. الفرق أن أحدهما يقتل بالكربون، والآخر بالقنابل.
بهذا المعنى، لم تخرج غريتا من قضيتها الأولى، بل وسّعتها. تحولت من الدفاع عن الكوكب إلى الدفاع عن الإنسان، ومن مواجهة الشركات متعددة الجنسيات إلى مواجهة الدولة التي تحتكر تعريف "الضحية".
حين تتحول البراءة إلى خطر
في المشهد الذي بثته وسائل الإعلام "الإسرائيلية" من ميناء أسدود، يظهر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وهو يصرخ في وجه المحتجزين من أسطول الصمود: "هؤلاء إرهابيون جاؤوا لدعم الإرهاب". المفارقة هنا مأساوية وساخرة في آن واحد: رجلٌ يقود نظامًا يمارس الإبادة يتهم فتاةً سويدية بأنها "إرهابية".
السؤال البديهي الذي يفرض نفسه: من هو الإرهابي حقًا؟ من أرسل القنابل على المستشفيات؟ من حاصر مليونَي إنسان في سجنٍ مفتوح منذ عقدين؟ من استولى على أرضٍ ليست له وادّعى أن الضحية هي الجاني؟ وإذا كان هذا ما يفعل بنا نحن كنشطاء غربيين فماذا يفعل بالأسري الفلسطينيّين؟
هذه الأسئلة هي ما يجعل غريتا خطرًا. لأنها لا تقدم خطابًا سياسيًا تقليديًا يمكن مجادلته، بل تقدم سؤالًا أخلاقيًا لا يُحتمل: ماذا بقي من إنسانيتكم؟
الضمير في مواجهة الإمبراطورية
في النهاية، ليست غريتا ثونبرغ مجرد ناشطة بيئية أو مدافعة عن غزة، بل رمزٌ لصدامٍ أكبر بين الضمير والإمبراطورية. إنها تذكير بأن "الحرية" التي يتغنى بها الغرب لا تُقاس بعدد الكلمات التي يمكن قولها، بل بعدد الحقائق التي يُسمح بقولها.
وفي هذا العالم الذي يحاسب الأطفال في غزة على ولادتهم، ويعاقب فتاة سويدية على ضميرها، يصبح الدفاع عن الحقيقة فعل مقاومة بحد ذاته.
غريتا لم تعد فقط تدافع عن الغابات، بل عن آخر جذور المعنى في عالمٍ احترق منذ زمن.
وكلما صرخ بن غفير في وجهها "إرهابية"، ازداد يقين العالم بأن الحقيقة، مهما كانت صغيرة، لا يمكن خنقها.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com