في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد 7 أكتوبر2023، عاد إلى الواجهة ملف بالغ الحساسية يتعلق بمشروع أرشفة ضخم تحتضنه جامعة هارفرد الأميركية، وهو مشروع لم يعد مجرد مبادرة ثقافية أو بحثية، بل تحوّل إلى مرآة تكشف عمق القلق الوجودي داخل البنية الذهنية للصهيونية المعاصرة. فحين تختار مؤسسة أكاديمية أميركية أن تحفظ في أرشيفها كل ما صدر في الكيان الإسرائيلي منذ تأسيسها -من منشورات بسيطة وصولاً إلى وثائق رسمية وتسجيلات تاريخية- فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا يُحفظ أرشيف "دولة" بأكمله خارج حدودها؟ وما الذي يدفع نخبة أكاديمية إلى التعامل مع إسرائيل ككيان قابل للزوال؟
الجواب لا يأتي عبر التحليل وحده، بل من داخل المشروع نفسه. فالقائمون على الأرشيف في هارفرد لم يُخفوا، عبر عقود، أن دافعهم الأساسي هو الخوف من السيناريو الذي قد لا تكون فيه إسرائيل موجودة، حيث يصف المشروع بعض الباحثين بأنه "نسخة احتياطية لدولة كاملة"، أُعدّ للمستقبل في حال اختفاء إسرائيل أو سقوطها.
هذه الفكرة ليست ادعاءً سياسياً من خصوم المشروع الصهيوني، بل هي اعترافات صريحة نطق بها أمناء المكتبات والباحثون الذين أشرفوا على عملية جمع ملايين الوثائق وحفظها في بوسطن، بعيداً عن الشرق الأوسط وتقلباته. إحدى اللحظات الكاشفة كانت حين سأل أحد الأدباء الإسرائيليين أمين الأرشيف عن الهدف من جمع هذه المواد، فبحسب صحيفة هآرتس، جاء الجواب: "هل أنتم واثقون أنكم ستبقون؟". هذه العبارة وحدها تختصر فلسفة المشروع: الأرشيف ليس حفظاً للمعرفة فحسب، بل تأمين على الذاكرة في حال اختفاء الدولة نفسها.
يأتي هذا ضمن سياق أوسع يتصل بالوعي الصهيوني الذي يعيش منذ نشأته تحت وطأة هواجس الفناء، حتى وهو يملك جيشاً قوياً ودعماً دولياً غير مسبوق. هذه الهواجس القديمة -المتجذرة في سرديات الشتات، والهروب، والانهيار- لا تزال تتحكم في سلوك الدولة ومؤسساتها حتى اليوم. ومن المفارقات أن الخوف من الانقراض يصبح في أحيان كثيرة أقوى من الواقع السياسي ذاته، وأن إسرائيل التي تُسوّق لنفسها كسردية قوة واستقرار تحتاج إلى أن تحفظ ذاكرتها في مؤسسة أميركية خشية أن تضيع هذه الذاكرة إذا ضاعت الأرض، بسبب قلق مستمر من حرب شاملة، أو انهيار سياسي، أو حتى "ضياع للدولة الحديثة كما ضاع الوجود اليهودي في أوروبا قبل الحرب".
الأرشيف في هارفرد يفتح الباب أيضاً على نقاش سياسي أوسع حول العلاقة بين المشروع الصهيوني والمركزية الغربية. فاختيار هارفرد، وليس أي مؤسسة إسرائيلية، لحفظ التاريخ، يحمل دلالة سياسية واضحة: ذاكرة إسرائيل محمية في "الغرب"، حيث يعتبر القائمون على المشروع أن استمرارية المعرفة اليهودية يجب ألا تُربط بمصير كيان سياسي متقلب ومحاط بصراعات وجودية. وكأن الذاكرة الجمعية للصهيونية تجد "ضمانتها الحقيقية" في الولايات المتحدة لا في تل أبيب أو القدس. هنا يصبح الأرشيف أكثر من أرشيف؛ يتحول إلى تصويت مسبق على عدم الثقة بالدولة نفسها.
إلى جانب ذلك، فإن ضخامة الأرشيف الذي يحتوي على مليون ملف، ستة ملايين صورة، آلاف الساعات من الصوت، آلاف الأفلام والملصقات، مواد رسمية وحكومية وحزبية، وثائق لا يمكن إيجادها في إسرائيل نفسها، بالإضافة إلى مواقع حساسة ووثائق حول المستوطنات في الضفة الغربية، تطرح سؤالاً حول مدى قدرة إسرائيل على إدارة أرشيفاتها، ومدى تدهور منظومتها الثقافية والإدارية. كثير من الأرشيفات داخل إسرائيل تعاني من الإهمال ونقص التمويل وسوء الحفظ بحسب صحيفة هآرتس، وهو ما جعل العديد من المؤسسات الإسرائيلية ترحب بنقل نسخ من موادها إلى هارفرد. لكن هذا النقل، رغم فوائده التقنية، نتج عنه واقع جديد: أرشيف دولة كاملة أصبح فعلياً في يد مؤسسة أجنبية تقرر من يطّلع على المواد وكيف تُستخدم، وهو ما أثار قلق عدد من الباحثين الإسرائيليين أنفسهم، خصوصاً عندما تبيّن أن بعض المواد تشمل خرائط بنى تحتية ومعلومات حساسة كان يفترض أن تخضع لضوابط داخلية.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى أرشيف هارفرد بوصفه مشروعاً أكاديمياً فقط، بل بوصفه ظاهرة سياسية وثقافية تكشف هشاشة عميقة في "مشروع الدولة" داخل الفكر الصهيوني، وبالأخص داخل الوعي الذي يخشى أن تكون إسرائيل مجرد فصل في تاريخ اليهود، لا نهايته. فالمشروع، في جوهره، ليس توثيقاً للحاضر ولا للماضي فقط، بل استعداداً لمستقبل يُخشى أنه قد لا يحمل بقاء الدولة التي وُلد من أجلها هذا الكم الهائل من الوثائق من هنا يبدو المشروع كأنه بوليصة تأمين تاريخية، تحفظ ذاكرة دولة قائمة على مشروع استيطاني، وتعيش هواجس وجودية، وتملك ذاكرة قصيرة عمرها أقل من قرن.
بالخلاصة، يعتبر مشروع هارفرد، بما يحمله من خوف موروث وجهد ضخم، واحداً من أكثر الشواهد دلالة على هشاشة "اليقين الوجودي" الذي تحاول إسرائيل دائماً إخفاءه.
الكاتب: غرفة التحرير