بعدما تراجع رئيس وزراء الكيان المؤقت بنيامين نتنياهو عن موقفه وضغط على "زر الإيقاف" بشأن الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل بعد أن أثارت إقالة وزير الدفاع الإسرائيلي احتجاجات حاشدة. يبدو لافتًا اهتمام الصحافة الصينية ومراكز الأبحاث الصينية حول مصير الكيان المؤقت في ظلّ مصالحات الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار نشرت أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية (Shanghai Academy of social sciences) للباحث في مركز غرب آسيا وشمال إفريقيا التابع لأكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية وانغ تشن وهو نائب مدير مركز شنغهاي للأبحاث اليهودية.
في هذه المادة يمكن فهم وجهة النظر الصينية من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: لماذا أثار الإصلاح القضائي اضطرابات اجتماعية هي الأعنف في "إسرائيل" منذ عقود؟ هل تنازلات نتنياهو تهدّئ الأزمة؟ في الوقت الذي يبشر فيه الشرق الأوسط بـ "موجة المصالحة"، إلى أين ستتجه "إسرائيل"؟
الخبراء الصينيون يجيبون عن هذه الأسئلة هذه الأسئلة التي تخلص إلى أن "إسرائيل" لن تواجه في المستقبل شرق أوسط جديد تتضاءل فيه الهيمنة الامريكية تدريجيًا فحسب، بل ستواصل أيضًا في مواجهة قضية فلسطينية لن تختفي، كما والرّد على سؤال "أين توجد إسرائيل؟".
وفيما يلي الترجمة الكاملة للمادة:
س: لماذا أثار الإصلاح القضائي اضطرابات اجتماعية هي الأعنف منذ عقود في إسرائيل؟
ج: منذ شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي (2023)، اندلعت احتجاجات وإضرابات واسعة النطاق في إسرائيل حول "الإصلاح القضائي" لحكومة نتنياهو. وقد تجاوز عدد المتظاهرين 600 ألف متظاهر في نهاية مارس\آذار. ولطالما ادعت إسرائيل أنها "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، ونصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي يضاهي مثيله في البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكا. ففاجأ هذا الاحتجاج الاجتماعي الواسع النطاق والاضطراب السياسي العديد من المراقبين. وأطلق عليه البعض "نهاية الديمقراطية"، وأطلق عليه آخرون "الانتفاضة العلمانية" و "العمل الوطني"، وحتى "ربيع إسرائيل". ولكن لماذا اندلعت مثل هذه الاحتجاجات الاجتماعية الواسعة النطاق في إسرائيل؟
ظاهريًا، كان الدافع المباشر لهذا الاحتجاج الاجتماعي الواسع النطاق هو "الإصلاح القضائي"، لحكومة نتنياهو. ففي أواخر العام الماضي (2022)، شكّل حزب الليكود بقيادة نتنياهو، حكومة ائتلافية مع حزب شاس والحزب الديني الصهيوني واتحاد يهود التوراة وحزب القوة اليهودية وحزب نعوم. وفي 4 يناير/كانون الثاني، أعلن النائب العام، ياريف ليفين، عن "خطة إصلاح قضائي" طموحة، تتضمن تعيين وعزل القضاة، والمراجعة القضائية، والمستشارين القانونيين الحكوميين، والقوانين الأساسية، وما إلى ذلك. والهدف من هذا هو الحد من سلطة المحكمة العليا والمستشارين القانونيين للحكومة، بحيث يمكن للبرلمان والحكومة التمتع بسلطات أكبر. لكن من وجهة نظر المعارضة، ستحمي هذه الإجراءات المشرعين والوزراء ورئيس الوزراء من التحقيق أو المحاكمة أثناء توليهم مناصبهم، وستوفر الأساس لحصانة نتنياهو من الملاحقة القضائية على "الفساد"؛ كما أن الإصلاحات في المراجعة القضائية وإجراءات التعيين والتعديلات على وضع وصلاحيات المستشار الحكومي، ستحدّ أكثر من حماية الفئات الضعيفة.
ومن منظور أعمق، فإن هذا الاحتجاج الواسع النطاق ليس سوى اندلاع مركّز للتناقضات الاجتماعية والسياسية في إسرائيل على مدى العقود القليلة الماضية.
أولى هذه التناقضات، هي عيوب النظام الانتخابي الإسرائيلي. تتم انتخابات الكنيست على أساس التمثيل النسبي، حيث يتم تخصيص المقاعد وفقًا لعدد الأصوات التي يتم الحصول عليها. هذا النوع من النظام الانتخابي دونيّ. على الرغم من أنه يمكن أن يحشد حماس الناس العاديين للمشاركة في السياسة، إلا أنه أكثر ملاءمة للأحزاب الصغيرة. وفي كثير من الحالات، وبسبب الفشل في الحصول على أغلبية بسيطة، ولتشكيل حكومة ناجحة، يجب على الأحزاب أن تتحد مع الأحزاب الصغيرة وتلبي مطالبها السياسية، حتى يتم اختطافها من قبل ميول هذه الأخيرة الراديكالية (المتطرفة).
أمّا الثانية، فهي التناقض بين مختلف الفئات الاجتماعية في إسرائيل. ينقسم اليهود الإسرائيليون إلى مجموعات على أساس الانتماء الديني وخلفية المهاجرين والطبقة الاجتماعية، وأبرزها الانقسام بين الإصلاحيين العلمانيين، واليهود الأرثوذكس. ينتمي معظم اليهود الإصلاحيين إلى الطبقة الوسطى في إسرائيل، وظروفهم الاقتصادية جيدة نسبيًا. غالبًا ما يحتاج اليهود الأرثوذكس "الحريديم" إلى الحصول على إعانات حكومية بسبب انخفاض معدل توظيفهم وكثرة عدد أطفالهم. إنهم يميلون إلى الالتزام الصارم بالمبادئ الدينية للطائفة الأرثوذكسية، ولا يشاركون في العمل ولا يؤدون الخدمة العسكرية، لكن معدل ولاداتهم مرتفع للغاية، وهم أكثر راديكالية (تطرفًا) ويميلون إلى اليمين سياسيًا. إن حكومة نتنياهو هي ائتلاف بين الليكود والأحزاب الدينية والصهيونية الأرثوذكسية المتطرفة، هذا ما يُعدّ سببًا مهمًا لوصف بعض وسائل الإعلام الاحتجاجات، بأنها "انتفاضة علمانية".
وآخر التناقضات الكامنة في إسرائيل، هي اعتبارها "دولة ديمقراطية" و"دولة يهودية". في يوليو/تموز من العام 2018، أقرّ الكنيست الإسرائيلي بصعوبة مشروع قانون "الدولة القومية-اليهودية"، الذي حدّد صفة "الدولة اليهودية" في شكل قانوني. بالإضافة إلى ذلك، لطالما اعتبرت إسرائيل نفسها "البلد الديمقراطي الوحيد" في الشرق الأوسط، كما أن سماتها الديمقراطية تشكل حجر زاوية هام في علاقة إسرائيل بالدول الغربية. ومع ذلك، هنالك أيضًا حوالي 1.9 مليون عربي فلسطيني يعيشون فيها، حيث يمثلون حوالي 21٪ من إجمالي سكانها. وبما أن معدل ولادة العرب أعلى بكثير من معدل ولادة اليهود، فإن التغيرات في التركيبة السكانية للعرب في المستقبل ستتحدّى حتمًا وضع اليهود كمجموعة عرقية مهيمنة، ناهيك عن العدد الكبير من الفلسطينيين المنتشرين في جميع أنحاء الضفة الغربية والمستوطنات. وإذا استمرت إسرائيل في حرمان الفلسطينيين من إقامة دولتهم بينما تحرمهم في الوقت نفسه من جنسيتهم، فإنها سوف تتحول إلى دولة فصل عنصري بحكم الأمر الواقع.
س: كيف ستتطور الأزمة بعد تقديم نتنياهو تنازلات معينة؟
ج: في مواجهة موجة من الاحتجاجات الجماهيرية، اضطرت حكومة نتنياهو إلى الإعلان في 27 مارس\آذار أنها "ستجمّد مؤقتًا" خطة الإصلاح القضائي حتى رفع البرلمان، وأعربت عن أملها في إجراء حوار حقيقي مع المعارضة "لتفادي التسبب في حرب أهلية". في وقت لاحق، أعلن اتحاد النقابات العمالية في إسرائيل انتهاء الإضراب. ومع ذلك، لم تهدأ مظاهرات الشوارع الواسعة النطاق، التي تأمل في مواصلة الضغط لإجبار حكومة نتنياهو على التخلي تمامًا عن "الإصلاح القضائي" بدلًا من "تجميده مؤقتًا".
ولم تعلن حكومة نتنياهو سوى "تجميد مؤقت" لخطط "الإصلاح القضائي" حتى الآن، من أجل التوصل إلى بعض التسويات مع المعارضة. ولكن في المجتمع الإسرائيلي، شديد الانقسام، نستطيع أن نتصور صعوبة التوصل إلى حل وسط. فحتى لو كانت حكومة نتنياهو تعتزم إعادة إطلاق "الإصلاح القضائي" في المستقبل، فإن الطاقة الهائلة التي أظهرتها المعارضة في هذا الاحتجاج من شأنها أن تجعلها تفكر مرتين.
في الواقع، وبغض النظر عما إذا كان يمكن مواصلة تنفيذ خطة "الإصلاح القضائي" في المستقبل، فقد كان لهذه الحادثة بالفعل تأثير كبير على الائتلاف الحاكم الحالي. الأول، هو الانقسام داخل حزب الليكود التي ينتمي إليه نتنياهو، فقد أعرب العديد من نواب الليكود عن تحفظاتهم بشأن الإصلاح القضائي. والثاني، هو الانقسام داخل الائتلاف الحاكم. بعد تجميد "الإصلاحات القضائية"، قد يواجه نتنياهو ضغوطًا أكبر من الأحزاب اليمينية الدينية، فإذا انسحبت هذه الأحزاب من الائتلاف الحاكم نتيجة لذلك، ستواجه حكومة نتنياهو خطر الانهيار.
أخيرًا، هناك ضربة كبيرة لشعبية نتنياهو السياسية والشخصية. على الرغم من أن نتنياهو ينفي بشدة أن "الإصلاحات القضائية" لها أي علاقة بـ "مزاعم الفساد" الموجهة ضده، يعتقد الكثير من الناس أنه إذا تم تنفيذها، فإن رئيس الوزراء لن يتمتع فقط بسلطة إعادة تنظيم مكتب النائب العام ورئيس النيابة، وتعيين مسؤولين يمكنهم مراجعة قضيته، ولكن أيضًا سيتمكّن من إقرار إحالة أحدهم إلى المحكمة. وبحسب استطلاعات الرأي التي أجرتها وسائل إعلام إسرائيلية، فإن عدد الأشخاص الذين يعتقدون أن زعيم حزب الوحدة الوطنية، بيني غانتس، الأنسب لتولي منصب رئاسة الوزراء، قد تجاوز عدد الذين يؤيدون نتنياهو.
بالنسبة لإسرائيل وحكومة نتنياهو، قد يكمن التحدي الأكبر في التمزق الاجتماعي الذي انعكس في أزمة "الإصلاح القضائي". بغض النظر عما إذا كان سيستمر، فإن التمزق الاجتماعي الذي يقف وراءه لا يمكن أن يندمل على المدى القصير. لا ينعكس هذا الانقسام بين العلمانيين الإسرائيليين والمتدينين فحسب، بل ينعكس أيضًا بين الطبقة الوسطى الإسرائيلية الممثلة بالنخبة العلمانية، والطبقة الوسطى والدنيا التي يمثلها الأرثوذكس المتطرفون. على سبيل المثال، سخر وزير أمن الدولة بن غفير من حزب "القوة اليهودية" ذات مرة: "أصوات عمال التكنولوجيا العالية تساوي أكثر من أصوات العمال اليدويين". وقال غاضبًا: "مقاومة النخبة نجحت". جوهر الخلاف بين الجانبين ليس فقط في من يمكنه تمثيل المجتمع الإسرائيلي بشكل أفضل، ولكن أيضًا إلى أين يجب أن تتجه إسرائيل في المستقبل؟ حيث يأمل الأول، في بناء مجتمع حديث مفتوح ومتسامح وشامل، في حين يأمل الثاني في بناء مجتمع تكون فيه الأمة اليهودية والثقافة التقليدية جوهره المطلق.
س: عندما يدخل الشرق الأوسط بـ "موجة المصالحة"، ماذا سيحدث لإسرائيل التي تعيش حالة من الاضطراب في الداخل؟
ج: الجدير بالذكر أن الاحتجاجات الاجتماعية واسعة النطاق في إسرائيل تزامنت مع تصاعد موجة "المصالحة" في الشرق الأوسط.
إن الاستقطاب السياسي الحالي في إسرائيل لا يمكن فصله عن التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط منذ سبعينيات القرن العشرين. فمع المصالحة بين مصر والأردن وإسرائيل، ضعفت الحركات القومية في البلدان العربية تدريجيًا، وتحسنت البيئة الخارجية التي تواجه إسرائيل كذلك، تدريجيًا. وكان لحرب الخليج التي اندلعت عام 1991 تأثيرًا كبيرًا على وحدة العالم العربي. فالغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 واندلاع "الربيع العربي" في العام 2011، لم يؤديا إلى زيادة إحباط القومية العربية التي دعمت بقوة مطالب فلسطين بالتحرير الوطني فحسب، بل همشت أيضا القضية الفلسطينية الإسرائيلية تمامًا، التي كانت في وقت من الأوقات لبّ صراعات النقاط الساخنة في الشرق الأوسط. باختصار، كانت إسرائيل المستفيد الأكبر من كل التغيرات الجيوسياسية التي طرأت على الشرق الأوسط منذ الحرب الباردة. فهي لم تنجح فقط في تغيير الوضع حيث تحدق الدول العربية المحيطة ببعضها البعض كالنمر، بل أنشأت أيضا "تحالفًا ضد إيران" بحكم الأمر الواقع مع المزيد من الدول العربية من خلال صياغة أسطورة "التهديد الإيراني" بعد حرب العراق في العام 2003.
في الفترة الطويلة من السلام النسبي، لا سيما عندما تكون قوى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي غير متوازنة بشكل خطير، فإن الشعور بالقلق في المجتمع الإسرائيلي قد تضاءل بشكل كبير، ولم يفقد فقط إرادة التسوية والتفاوض من أجل السلام، ولكن أيضًا المثل السياسية للآباء المؤسسين في بحثهم عن الاستقلال والسلام والديمقراطية والمساواة في الأيام الأولى لتأسيس الأمة، ويتضح الميل اليميني للمجتمع. وفي السنوات الأخيرة، رفض الجنود الإسرائيليون مرارًا وتكرارًا الخدمة أو القيام بمهام في الأراضي المحتلة من الضفة الغربية. وقد رفض عدد كبير من جنود الاحتياط المشاركة في التدريب السنوي وخرجوا إلى الشوارع احتجاجًا على "الإصلاح القضائي" للحكومة. وأشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن وصف إسرائيل بأنها "ملجأ للشعب اليهودي" قد عفا عليه الزمن. يمكن النظر إلى "موجة المصالحة" الحالية في الشرق الأوسط على أنها مقدمة لجولة جديدة من التغييرات في النظام الدولي. وينعكس هذا في التأثيرات الموجبة للانكماش الاستراتيجي للولايات المتحدة، والهيمنة الطويلة الأمد في الشرق الأوسط، وفي الجهود التي تبذلها بلدان المنطقة لإيجاد موقف موات في تطور المشهد الدولي. وبالنسبة لـ"إسرائيل، فإنها لن تواجه في المستقبل شرق أوسط جديد، تتضاءل فيه الهيمنة الامريكية تدريجيًا فحسب، بل ستواصل أيضًا في مواجهة قضية فلسطينية لن تختفي، كما والرّد على سؤال "أين توجد إسرائيل؟".
المصدر: Shanghai Academy of social sciences
الكاتب: ترجمة جنى عساف