زينب عقيل
يؤكدّ عبور حماس إلى الأراضي الفلسطينية في غلاف غزة، وما نجم عنه من عمليات أسر وانتقام من الغطرسة الإسرائيلية طيلة عقود، يؤكّد ذلك، مرة أخرى، إفلاس سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع بين فلسطين التاريخية والكيان المؤقت. من هاري ترومان إلى جو بايدن، رضخت كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية لضغوط اللوبي الإسرائيلي، وتصرفت مثل "محامي إسرائيل"، على الرغم من التحذيرات التي بدأت منذ عام 1948، عندما حذّر جورج مارشال، وزير خارجية حكومة ترومان، بأن ترومان "كان يضحي بالأمن الأمريكي من أجل الأصوات الانتخابية". على أنّ مارشال، صاحب خطة مارشال الشهيرة لما يسمونه إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ونسميها "الإطباق على أوروبا وجعلها تابعة"، كان يرى أنّ "قرار تقسيم فلسطين مدعومًاً من الولايات المتحدة، من شأنه أن يضرّ بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرقين الأدنى والأوسط، لدرجة أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكن الحفاظ عليه بالقوة العسكرية".
إصرار الولايات المتحدة على أنها ملتزمة بحلّ الدولتين يعكس الدجل الأمريكي الذي بات يدركه روّاد الديموقراطية وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة، أو ما يسمى بالقيم الأمريكية التي أقامت الحكومات الأمريكية المتعاقبة لأجلها الحروب على أشكالها. خاصة في ظلّ الضغط الأمريكي الدائم على الفلسطينيين والعرب للتنازل، في مقابل الدعم المفتوح وغير المشروط للإسرائيليين، الذين يثبتون يومًا بعد يوم بأنهم ليسوا أكثر من "دولة فصل عنصري" بحسب الأدبيات الأمريكية. فما القول في الموقف الأمريكي من عملية حماس غير المسبوقة في تاريخ الصراع مع إسرائيل؟ خاصة في ظلّ السياق الإقليمي المهيّأ لفتح المحاور على بعضها، والتي يمكن أن تؤدي في أسوأ حالاتها إلى إغلاق مضيق هرمز مثلًا، إذا ما اضطرت إيران للتدخل بشكل مباشر، ذلك أنّه حتى نصف تأثير إغلاق مضيق هرمز، سيكون كافيًا لانهيار الاقتصاد الغربي بزعامة الولايات المتحدة.
بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة في هذه المرحلة، فإن أي شيء يجلب المزيد من الهدوء إلى ما يسمونه الشرق الأوسط هو موضع ترحيب، لكنّ تحالف بايدن الصعب مع نتنياهو، سيتطلّب جهودًا أكبر لِلَجم غطرسة الحكومة اليهودية المتطرفة، التي تهدّد بتوغّل بريّ، لن يُبقي للفلسطينيين مكانًا يهربون إليه، وهو بالتالي بمثابة إبادة جماعية لن يسمح بها محور المقاومة. وسيراه المجتمع الدولي على أنه ردة فعل غير متناسبة. كل ذلك من شأنه أن يشكّل عبئًا كبيرًا للولايات المتحدة، خاصة أنه سيمنح الدول الأخرى الحقّ في التدخل لمنع الإبادة الجماعية في غزة. ولكن، ما القول أيضًا في تصريحات غالانت وزير حرب الاحتلال بأن الكيان سيتعامل من الفلسطينيين على أنهم "وحوش بشرية"؟ إنها الغطرسة اليهودية مجدّدًا، التي تعطي لنفسها الحقّ بنزع الإنسانية عن الفلسطينيين لتبرر للمجتمع الدولي إبادتهم، فكيف يمكن لبايدن أن يقنع نتنياهو بردّ الفعل المتناسب؟
أفضل تعبير لوصف نتنياهو كما عبّرت عنه الصحافة الأمريكية بأنه "مجموعة الضغوط عليه"، وليس معلومًا إن كان سيتخلى عن حلفائه هؤلاء، وكيف سيقوم بايدن المأزوم حقًا بإيجاد طريقة للمضي قدمًا بـ "إسرائيل". خاصة أنه من المفترض أن تؤدي هذه "الدولة المتخيلة" دورًا وظيفيًا في الشرق الأوسط، لتركّز واشنطن على صراعاتها الأخرى حول العالم. والحقّ أنها لا تنفكّ عبئًا عليها، بعدما فشل الكيان طيلة العقود الماضية على القيام بوظيفته، ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتخلى عنه، بعدما أصبح ثمة تأييد شعبي واسع في الولايات المتحدة للوبي الصهيوني، جعله متغلغلًا في الدولة العميقة.
على الرغم من نفور إدارة بايدن من سياسة نتنياهو الداخلية، إلا أنها زادت من التدريبات العسكرية الأمريكية مع إسرائيل. في أوائل عام 2023، أجرت القيادة المركزية الأمريكية، المشرفة على الشرق الأوسط، أجرت للجيش الأمريكي، وجيش الاحتلال، أكبر مناورة مشتركة على الإطلاق، تسمى جونيبر أوك. وشاركت فيه أكثر من 140 طائرة، بما في ذلك نوع القاذفات والناقلات بعيدة المدى التي لا تمتلكها "إسرائيل". وشملت التدريبات أيضًا مجموعة من حاملات طائرات تابعة للبحرية الأمريكية، وقوات تركز على الحرب الرقمية والفضاء. وكان القصد من ذلك هو إرسال إشارة ردع إلى إيران، وسائل طمأنة إلى حلفاء واشنطن العرب. وكانت الرسالة أنه على الرغم من أن الموارد الأمريكية مستنزفة، وأن واشنطن تركز في الغالب على المنافسة مع الصين، والحرب في أوكرانيا، إلا أنها لا تزال ملتزمة بالأمن في الشرق الأوسط، وتعتمد في ذلك على "إسرائيل".
فازت الولايات المتحدة بجميع المعارك الكبيرة في فيتنام مثلًا وأفغانستان، لكنها خسرت في النهاية كلتا الحربين. هزمت مصر وسوريا في حرب عام 1973، لكن الخسائر التي تكبدتها "إسرائيل" في تلك الحرب أقنعت قادتها (ورعاتهم الأمريكيين) بأنهم لم يعد بإمكانهم تجاهل رغبة مصر في استعادة سيناء. ربما لن تتمكن حماس وحدها من هزيمة "إسرائيل"، لكن هجومها هو تأكيد بأن الكيان ليس محصنًا ولا يمكن منع شعب من تقرير مصيره. كما أنه يبين أن اتفاقات إبراهام والجهود الأخيرة للتطبيع السعودي ليست ضمانًا للسلام.
من الصعب القول إن كانت الولايات المتحدة ستقود حكومة نتنياهو لتمنع الانزلاق إلى الحرب الكبرى، أو ستكون حكومة نتنياهو من ستقود الولايات المتحدة لمزيد من التهديد للأمن العالمي، لكن الحقيقي والمؤكّد أن المقاومة الفلسطينية قد حققت انتصارًا لامعًا لا يمكن لأي تسوية أو وساطة أو حتى مؤامرة أن تسقطه. والمؤكّد أيضًا أنّ الولايات المتحدة ستستمرّ بالانتقال من فشل إلى فشل، إذا لم تعالج القضية الفلسطينية من جذورها، وجذورها أن الفلسطينيين ليس أمامهم إلا استخدام القوة ردّا على القوة التي تُستخدم ضدّهم. كانت حكومة نتنياهو على وشك مهاجمة غزة، وكلّ ما حصل هو عملية استباقية لحماس. وإذا أرادت الولايات المتحدة إزالة الصداع المستمر الذي يسببه هذا الكيان الوظيفي، عليها أن تزيله نهائيًا، لأنه قائم على العنصرية والظلم، خاصةً أن الفلسطينيين في ظلّ محور المقاومة، لديهم حظوظ أقوى من الهنود الحمر.