في جغرافيا مغلقة اسمها قطاع غزة، حيث لا يُسمح للريح أن تمرّ إلا عبر ممرات المراقبة "الإسرائيلية"، تتشكل اليوم ظاهرة خطيرة لا تقلّ تهديدًا عن الحرب نفسها: ميلشيات مسلّحة تتحرك تحت أعين الاحتلال، وبتنسيق مباشر مع أجهزته الأمنية.
تبدو هذه المجموعات في ظاهرها محلية، لكنها في جوهرها النسخة الجديدة من عصابات الهاجاناه والإرغون وشتيرن، التي كانت ذات يوم أداة المشروع الصهيوني لتدمير المجتمع الفلسطيني الأصلي وإحلال مستوطنٍ مكانه.
أذرع محلية بظلّ الاحتلال
من جنوب رفح إلى أقصى شمال بيت لاهيا، تنتشر شبكات مسلحة تحمل أسماءً براقة وشعاراتٍ وطنية، لكنها تتحرك عمليًا خلف ما يُعرف بـ"الخط الأصفر" — وهو شريط الفصل الأمني الذي يحدد مناطق وجود القوات "الإسرائيلية".
تبدأ الحكاية من مجموعة "القوات الشعبية" بقيادة ياسر أبو شباب، التي نشأت شرقي رفح بعد العملية العسكرية "الإسرائيلية" في مايو/أيار الماضي.
تُتهم هذه المجموعة، وفق مصادر أمنية وتقارير إعلامية، بنهب المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى الجنوب، وبإقامة قنوات اتصال مباشرة مع الاحتلال، حتى إنّ الإعلام "الإسرائيلي" نفسه لم يُخفِ إشاراته إلى هذا التعاون.
لكن أبو شباب ينفي ذلك، مدافعًا عن نفسه بلغةٍ تكررت على ألسنة كثيرين من قبله: "نحن نحمي الناس"، وهي العبارة ذاتها التي استخدمتها "الهاجاناه" يوم بررت قتل الفلسطينيين بحجة حماية المستوطنات.
وفي خان يونس، يظهر حسام الأسطل كمثال آخر على هذه الازدواجية القاتلة.
فالرجل الذي كان معتقلًا لدى وزارة الداخلية في غزة بتهمة التعامل مع "إسرائيل"، عاد بعد الحرب ليعلن عن تأسيس ما سماه "القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب"، وهو الاسم الذي يتقاطع مع القاموس الأمني "الإسرائيلي" أكثر من أي قاموس مقاوم.
من حيث الشكل، تبدو هذه التشكيلات كعصابات مسلحة؛ ومن حيث المضمون، هي جزء من هندسة الاحتلال الجديدة للقطاع: تفكيك المقاومة من الداخل، وتشويه صورة الأمن الأهلي، وخلق فراغٍ ميدانيٍّ يسمح لإسرائيل بإدارة المشهد دون الظهور المباشر.
من الجنوب إلى الشمال… هندسة الفوضى
الظاهرة لا تتوقف عند رفح وخان يونس.
في حيّ الشجاعية شرقي مدينة غزة وصولًا إلى حيّ الصبره، يقود رامي عدنان حلس مجموعة أخرى أعلنت – وفق تقارير محلية – سيطرتها على أراضٍ في شمال القطاع، متجاوزة حدود منطقتها، في مؤشرٍ على محاولة التمدد الجغرافي وتوسيع النفوذ.
وعند أقصى الشمال، في بيت لاهيا وبيت حانون، يتجلى النموذج الأكثر اكتمالًا، حيث يقود أشرف المنسي ما يُعرف بـ"الجيش الشعبي"، وهو تشكيل نشأ في سبتمبر/أيلول الماضي برعاية مباشرة من ياسر أبو شباب، مما يكشف عن شبكة تنسيق محكمة بين هذه المجموعات.
فالقوافل التي شوهدت تتجه نحو مقر المنسي، محمّلة بالوقود والماء والمؤن، مرت من مناطق تحت السيطرة "الإسرائيلية" أو بمراقبتها المباشرة — وهو تفصيل لا يمكن تفسيره إلا عبر قنوات تسهيل استخباراتية.
ما تكشفه المصادر "الإسرائيلية" نفسها، وما تسجله تحركات ميدانية على الأرض، هو أن هذه المجموعات تتلقى توجيهًا ودعمًا من جهاز "الشاباك"، وبالتنسيق مع الوحدة 8200 المتخصصة في الحرب الإلكترونية وجمع المعلومات.
إنها ليست فوضى عشوائية، بل مشروع منظم لإنتاج "جيش ظلّ" فلسطيني بإدارة "إسرائيلية"، هدفه مواجهة حماس من الداخل، تمامًا كما دعمت "إسرائيل" في لبنان "جيش لحد" لمواجهة المقاومة هناك في الثمانينيات.
الاحتلال بالعقل لا بالجندي
يختلف الاحتلال في صوره الحديثة عن احتلال الأمس؛ لم يعد بحاجة إلى دباباته لفرض السيطرة، بل يكفيه أن يُنشئ داخل المجتمع خصومًا جددًا يتقاتلون نيابة عنه.
فحين تسقط سلطة السلاح من يد المقاومة إلى يد "المرتزقة المحليين"، تتحول السيطرة إلى عملية هندسة اجتماعية لا تحتاج لجندي على الأرض، بل لعميل على الشاشة، وسلاحٍ يرفع شعار "الأمن الأهلي" بينما يضرب الأمن نفسه.
هذه هي فلسفة وعقيدة الاحتلال:
أن يُبقي يده خفية، وأن يزرع أدواته داخل النسيج الفلسطيني ليتحول الصراع من مواجهة مع عدو خارجي إلى صراع داخلي متبادل يبرر وجود العدو الخارجي نفسه.
وهنا تكمن خطورة هذه الميليشيات: فهي لا تفتح النار على "إسرائيل"، بل على وعي الفلسطينيين، فتُربك مفاهيم الوطنية، وتبدّل الخرائط الرمزية للمقاومة.
القانون والشرعية في مواجهة الفوضى
في المقابل، تتحرك الأجهزة الأمنية في غزة وفق قانون العقوبات الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية لعام 1979، وهو القانون الذي يجرّم بوضوح أفعال التخابر والخيانة والإضرار بأمن الثورة والمجتمع.
هذا القانون، الذي حافظت عليه حكومة غزة باعتباره مرجعًا ثوريًا، استُخدم مؤخرًا في محاكمة مجموعات متهمة بالتعاون مع الاحتلال خلال الحرب.
فقد أعلنت الجهات الأمنية عن مقتل 32 مسلحًا واعتقال 24 آخرين من إحدى العصابات التي نشطت في مدينة غزة، ومصادرة أسلحتهم بالكامل، في عملية دفعت ثمنها الأجهزة الأمنية نفسها 6 شهداء من عناصرها.
لكن المفارقة الكبرى أن العائلات والعشائر الفلسطينية نفسها بدأت تتبرأ من أبنائها المتورطين.
عشيرة التوابين تبرأت من أبو شباب، وعائلة دغمش في غزة نفت أي علاقة لها بما يجري من أعمال فردية، وعائلة الأسطل أعلنت براءتها من حسام الأسطل ومجموعته.
إنها محاولة من المجتمع الفلسطيني لاستعادة وحدته الأخلاقية أمام تسليع الخيانة وتحويلها إلى وظيفة مسلّحة.
من الهاجاناه إلى غزة: التاريخ يعيد نفسه
ليست مصادفة أن تتشابه المشاهد بين فلسطين 1948 وغزة 2025.
فكما أن العصابات الصهيونية – الهاجاناه، الإرغون، شتيرن، والبالماخ – كانت أدواتٍ استعمارية لفرض السيطرة على الأرض وتهجير الفلسطينيين، فإن الميلشيات الجديدة في غزة تعمل على تفريغ الأرض من المعنى، لا من السكان فقط.
الاحتلال لم ينسَ دروسه القديمة:
فهو يدرك أن السيطرة تبدأ حين يتحول الضحية إلى نسخة مشوهة من الجلاد، وحين يصبح السلاح الذي وُجِد لحماية المخيمات أداةً لترهيبها.
في الماضي، دمجت "إسرائيل" تلك العصابات لتؤسس جيشها النظامي، أما اليوم فهي تفكك المجتمع الفلسطيني لتعيد إنتاج عصاباتها داخله.
الغاية واحدة: أن تبقى فلسطين ممزقة، وأن تتحول غزة إلى حقل تجارب لسياسات "الاحتلال غير المرئي"، حيث تتحكم "إسرائيل" بالأمن والمساعدات والخرائط من بعيد.
رسائل التصعيد الأخيرة
في سياق هذا المشهد، جاء التصعيد "الإسرائيلي" الأخير كترجمة عملية لهذه المعادلة الجديدة.
فالاحتلال، الذي يسيطر اليوم على نحو 53% من مساحة القطاع، يدير عملياته داخل مناطق تمتد حتى 700 متر خارج نطاق سيطرته المباشرة، ويصفها بأنها "أراضٍ محرّمة" على الفلسطينيين.
الذريعة جاهزة دائمًا: "حدث أمني"، "خرق لوقف النار"، "تهديد للبنى التحتية"، وهي المفردات ذاتها التي استُخدمت في لبنان وسوريا من قبل.
لكن جوهر الرسالة هو ذاته: إما أن تمتثل حماس لمنظومة السيطرة الجديدة، أو تُفتح أبواب النار من جديد.
إنّ "إسرائيل" التي وُلدت من رحم العصابات لا يمكنها أن تعيش إلا بإعادة إنتاجها. هي "دولةٌ" قامت على فكرة الحرب الدائمة، وتحتاج دائمًا إلى عدوٍّ داخلي لتبرر وجودها.
واليوم، بعد فشلها في كسر المقاومة عسكريًا، تعود إلى طريقتها القديمة: صناعة ميليشياتٍ بديلةٍ لتقاتل بالنيابة عنها، وتحرق ما تبقّى من وعيٍ في غزة.
النسخ كاستراتيجية استعمارية
الاحتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يسعى إلى استنساخ الضحية في صورته.
من "الهاجاناه" إلى "الجيش الشعبي"، ومن "الإرغون" إلى "القوات الضاربة"، تتكرر القصة بوجوهٍ محلية وأسماء جديدة.
لكن ما لا تفهمه "إسرائيل" هو أن المجتمع الفلسطيني، مهما تشتت وتعب، يملك ذاكرة لا يمكن تزويرها.
إنّ وعيه التاريخي بالمحتل لا يُمحى بسهولة، وكل من يحاول أن يكون ظلًّا للعدو، سيكتشف في النهاية أن الظل لا يعيش أكثر من سقوط الضوء.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com