الخميس 30 تشرين أول , 2025 01:28

ما بعد حرب غزة: "إسرائيل" تُعيد ترتيب ساحات الصراع

خريطة الشرق الأوسط وجندي إسرائيلي

في ضوء المستجدات السياسية والعسكرية التي رافقت وقف إطلاق النار في غزة مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2025، تتضح ملامح مرحلة جديدة تعيد رسم خريطة أولويات الكيان الإسرائيلي في الإقليم، بعد حربٍ استمرّت عامين واتّسمت بطابع إبادي. فبينما ينشغل الكيان بتنفيذ بنود الاتفاق مع حركة حماس، يتبيّن أن إيران ولبنان ما زالا في صدارة سلّم التهديدات، في حين تتفاوت أهمية الساحات الأخرى مثل سوريا، العراق، اليمن، والضفة الغربية، بحسب الأدوار الوظيفية التي تؤديها ضمن المعادلة الإقليمية الشاملة.

أولًا: إيران — التهديد الاستراتيجي الثابت

تحتفظ إيران بموقعها كأولوية قصوى في الحسابات الإسرائيلية، كونها تمثّل رأس محور المقاومة وأكبر عائق أمام مشروع "الشرق الأوسط الجديد". ومع وقف الحرب على غزة، ازداد الحديث في الإعلام الإسرائيلي عن احتمال توجيه ضربة مباشرة لطهران، خاصة بعد تقارير عن تطوير "قنبلة استعراضية" تحمل رسائل ردع قوية تجاه الغرب. تصريحات نتنياهو المتكررة تؤكد أن "الحرب مع طهران لم تنتهِ بعد"، وأن الخطر الإيراني دائم ومتجدد. وتعتمد الاستراتيجية الإسرائيلية على جمع المعلومات الاستخباراتية، ومنع المساعدات الصينية والروسية لإيران، وتسريع تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي، مثل "آرو" والليزر الدفاعي.
رغم ما لحق بإيران من تعطيل مؤقت لمشاريعها النووية، فإن قدرتها على إعادة تشغيلها متى شاءت تبقيها مصدر تهديد طويل الأمد.

ثانيًا: لبنان — الساحة العسكرية الحساسة

يشكل لبنان إحدى أهم الساحات العملياتية بالنسبة للكيان، إذ يواصل الاحتلال استهداف البنية التحتية لحزب الله بذريعة منع إعادة التسلح. ورغم الهدنة المستمرة منذ العام الماضي، تتكرر الغارات الإسرائيلية ضمن خطة تهدف إلى منع الحزب من إعادة الانتشار شمال الليطاني. تتزامن هذه الضغوط مع جهود دبلوماسية أميركية لإدراج نزع سلاح حزب الله ضمن جدول ما بعد غزة، مع ربط إعادة إعمار لبنان بتنفيذ هذا الشرط.
التقارير العبرية تشير إلى مناورات مكثفة للجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية، واستعدادات لاحتمال تجدد الحرب. في المقابل، يواصل حزب الله تعزيز قدراته رغم الضربات، مما يجعل الساحة اللبنانية مفتوحة على احتمالات التصعيد، خصوصًا مع تراجع الحديث الداخلي في لبنان عن نزع السلاح.

ثالثًا: غزة — من الحرب إلى الإدارة المعقدة

بعد عامين من الحرب، تحوّلت غزة إلى ساحة تثبيت ميداني، تتخللها انسحابات جزئية وتدفّق مساعدات إنسانية. إلا أن هذا الهدوء النسبي لا يخفي نيات إسرائيل في السيطرة الكاملة على القطاع. فالاتفاق مع حماس يتضمن، بحسب تصريحات نتنياهو، نزع سلاح الحركة ودمج القطاع ضمن خطة ترامب للسلام. وتشير تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أن حماس أعادت تنظيم سلطتها المدنية والإدارية في القطاع، ما يثير قلق تل أبيب وواشنطن من فشل مسار "نزع السلاح".
تتوقع المصادر العبرية أن يتحول أي رفض من حماس إلى ذريعة لتصعيد عسكري جديد، تحت شعار "فرض الاستقرار"، وهو ما يجعل غزة ساحة متوترة قابلة للاشتعال مجددًا.

رابعًا: سوريا — الساحة المتحركة

تزايدت أهمية الساحة السورية بعد وقف الحرب على غزة، إذ يرى الكيان في هشاشة الوضع الأمني هناك فرصة لتعزيز وجوده العسكري في الجولان، وفرض واقع ميداني جديد يخدم مصالحه.
تعمل إسرائيل على استغلال الفراغ الأمني، وتوسيع عملياتها ضمن استراتيجية بعيدة المدى هدفها ترسيخ السيطرة على الممرات الاستراتيجية، في ظل تضارب المصالح بين سوريا وتركيا وروسيا.
وتشير التقارير إلى أن النظام السوري الجديد يسعى لدمج الميليشيات في الجيش الوطني بدعم أميركي وتركي، لكن استمرار تعدد القوى المسلحة يبقي المشهد مفتوحًا على تدخلات إسرائيلية محتملة بذريعة "مكافحة الفوضى".

خامسًا: الساحات الثانوية — العراق، اليمن، والضفة الغربية

يبقى العراق ساحة وظيفية تُستخدم لتخفيف الضغط عن الجبهات الأخرى، مع استمرار الحضور الأميركي الذي يوفّر مظلة لتوزيع الموارد والضربات. أما اليمن، فتراجع موقعه مؤقتًا بعد وقف هجمات أنصار الله على الداخل الإسرائيلي، لتتحول المرحلة الحالية إلى جمع استخباراتي واستعداد لجولة مقبلة.
في المقابل، تشهد الضفة الغربية ضغوطًا أميركية للحد من الاستيطان، ليس حرصًا على الفلسطينيين، بل في محاولة لتجميل صورة الكيان بعد اتساع عزلته الدولية. ومع ذلك، يبقى الاحتلال متمسكًا بإنجازاته الميدانية في الضفة من قتل واعتقال وتدمير.

تقييم شامل

تؤكد المراجعة أن إيران لا تزال التهديد الأبرز على المدى الاستراتيجي، إذ فشلت إسرائيل في القضاء الكامل على قدراتها النووية والصاروخية. ويستمر لبنان كساحة ساخنة حيث يبرز حزب الله كعقبة كبرى أمام أي تسوية أميركية – إسرائيلية. أما غزة، فانتقلت إلى مرحلة إدارة ما بعد الحرب، مع احتمال عودة التصعيد في أي لحظة. وتشكّل سوريا نقطة ارتكاز متقدمة في مشروع السيطرة الإقليمي الإسرائيلي، في حين يحتفظ العراق واليمن بأدوارهما الوظيفية، وتبقى الضفة الغربية ساحة لتثبيت المكاسب السياسية دون تغييرات كبيرة في الميدان.

بناءً على ذلك، يمكن القول إن المرحلة الحالية تمثل فترة إعادة تموضع للكيان، يسعى فيها إلى موازنة أولوياته بين التهديدات الوجودية (إيران وحزب الله) والتهديدات العملياتية (غزة وسوريا). في المقابل، تبقى الاستراتيجية العامة قائمة على الردع الاستباقي، والاستثمار في الأنظمة الدفاعية المتقدمة، مع الانخراط في مسارات دبلوماسية تكتيكية لإعادة كسب الشرعية الدولية.
وعلى الرغم من التراجع النسبي لبعض الساحات، فإن الخطر الإيراني واللبناني يظل في صميم الحسابات الأمنية الإسرائيلية، ما يجعل هذه الجبهات محطّ تركيز مستمر، وقابلة للاشتعال في أي لحظة تبعًا للتحولات الإقليمية القادمة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور