في زمن تتقاطع فيه الحروب مع التكنولوجيا، ويتحوّل القانون إلى ميدان صراع سياسي، وتغدو الهوية أداة لإعادة تشكيل العالم، تبرز الحاجة إلى قراءةٍ مختلفة تفكك ما يجري خلف العناوين. فالقوة لم تعد تُقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ، بل بقدرة الأنظمة على إنتاج سرديتها وتوجيه الوعي. بين خوارزميات تتحكم في تدفق المعلومة، وقوانين تُعيد تعريف الجريمة، وأفكارٍ تُعيد رسم معنى الانتماء، يتشكّل مشهد إسرائيلي داخلي متشابك يعكس مزيجًا من الاستيطان، والهيمنة، والبحث الدائم عن الشرعية.
هذه التحولات لا تُقرأ في سياقها السياسي فحسب، بل في تفاعلها مع البنى الثقافية والاجتماعية والرقمية التي تصوغ وجه الصراع في عصر جديد، حيث تتداخل الحقيقة بالدعاية، والإنسان بالآلة، والمستعمِر بالمستعمَر في شبكةٍ من السيطرة المعاصرة.
في هذا السياق، صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" عدد مزدوج من مجلة قضايا إسرائيلية يضم العددين (98 و99)، يتمحور حول تفكيك سياسات السيطرة الاستيطانية، مع قراءات معمّقة في مسارات القانون الدولي وتحليل جدل الهوية اليهودية الذي يشكّل الإطار المرجعي للانقلابات السياسية والاستراتيجية الراهنة في إسرائيل.
يُفتتح العدد بمقالة مترجمة لديريك موزس تتناول اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، عبر مقاربة تاريخية-قانونية تربط بين النقاش الحالي ونقاشٍ مشابه خلال حرب فيتنام، موضّحةً كيف ساهمت تلك التجربة في صياغة الإطار القانوني الذي اشترط لاحقًا إثبات "النية الخاصة" للإبادة، ما جعل توصيف العنف الإسرائيلي في غزة كإبادة جماعية أكثر تعقيدًا.
وفي مقالة لوليد حباس وشيرين يونس، يتناول العدد معضلة إعفاء طلاب المعاهد الحريدية من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، مستعرضًا تطور الصراع بين المحكمة العليا والحكومات منذ السبعينيات وحتى عام 2025. يبرز المقال كيف تحولت القضية من استثناء إداري إلى أزمة بنيوية تمسّ هوية الدولة، بين التيار الليبرالي الدستوري وصعود اليمين الديني الشعبوي، مع تركيز خاص على لحظة عام 2024 حين فرضت المحكمة العليا التجنيد على الحريديم وعلّقت تمويل مدارسهم الدينية.
كما يتضمّن العدد ترجمة لنص شارك في تأليفه نيف غوردون، غاي شاليف، وأسامة طنوس، يكشف تواطؤ الجهاز الطبي الإسرائيلي في الحرب على غزة، سواء بالصمت أو بالمشاركة في ممارسات التعذيب والإهمال الطبي ورفض علاج الأسرى الفلسطينيين.
وفي سياق جدل الهوية، تنشر المجلة ترجمة مطوّرة عن نص لنديم كركبي يناقش سياسات الاستيعاب في إسرائيل من خلال ثلاثية: الأشكناز كمستوطنين، الفلسطينيون كأصلانيين، والمزراحيون كفئة وسطية. يبرز المقال كيف استُخدم المزراحيون لتعزيز التفوق الديمغرافي اليهودي ومنح المشروع الاستيطاني شرعية بالمكان، موضحًا في الوقت نفسه استحالة دمج فلسطينيي 48 في النسيج الإسرائيلي بفعل الانتماء الديني كحاجز نهائي.
كما يتناول عبد الهادي العزازي في مقاله الهيمنة الخوارزمية الإسرائيلية وكيف تُدار السردية الصهيونية في الفضاء الرقمي الغربي عبر محركات البحث ومنصات التواصل والذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى الانتقال من الدعاية التقليدية إلى بيئة رقمية تستبعد الرواية الفلسطينية عبر تصنيفها "تحريضية"، وتستهدف النشطاء والصحافيين المناصرين لفلسطين.
وفي نص آخر، يناقش وليد حباس دور الذكاء الاصطناعي القاتل في الحرب على غزة، موضحًا كيف تحولت الأنظمة الذكية إلى منظومات إبادة مؤتمتة تتخذ قرارات قتل جماعية دون رقابة بشرية فعلية. ويكشف المقال من خلال مفاهيم فلسفية ونقدية مثل "التحيّز الآلي" و"الغموض المعرفي" عن الطابع الإبادي لهذه الخوارزميات، وعن عجز القانون الدولي عن مساءلتها.
أما هند شريدة، فتكتب عن عسكرة العمل الإنساني في غزة من خلال حالتي الميناء العائم الأميركي (2024) و"مؤسسة غزة الإنسانية" (2025)، موضحةً كيف تحولت المساعدات إلى أدوات حصار وإبادة ضمن إطار "هندسة المجاعة"، حيث غدت مراكز التوزيع مصائد موت وأدوات تهجير.
وفي مجال العلاقات الدولية، تضمّن العدد مقالة لسلمى حمزة حول دور الصناعات الأمنية الإسرائيلية في دعم الديكتاتورية الأرجنتينية خلال الحرب الباردة، وأخرى لمنال علان عن التقارب الأمني والدفاعي بين الهند وإسرائيل، موضحةً كيف يوظف الطرفان خطاب "مكافحة الإرهاب" لتبرير التعاون العسكري المتنامي، خاصة في مجال الطائرات المسيّرة والإنتاج المشترك، مع الإشارة إلى أن الهند أصبحت أكبر مستورد للسلاح الإسرائيلي.
وفي قسم الأرشيف، يُعيد العدد قراءة الجدل المبكر حول الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر من خلال ترجمتين: الأولى لمقال "ماوشيل" لثيودور هرتسل الذي يميّز بين "اليهودي الحقيقي" و"ماوشيل" الرافض للصهيونية، والثانية لنص كارل كراوس "كراونة لصهيون" الذي يقدّم نقدًا لاذعًا للصهيونية بوصفها "لاسامية يهودية"، في تعبيرٍ عن الانقسام الفكري داخل الوسط اليهودي الأوروبي آنذاك.
ويُختتم العدد بقراءة لكتاب "نتنياهو: سيرة البقاء والنجاة السياسية" أعدّها ماهر داوود، إلى جانب زاوية المكتبة التي أعدّها عبد القادر بدوي.
لتحميل العدد من هنا
المصدر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"