 
                                            تظل صفقة شاليط لتبادل الأسرى عام 2011 علامة فارقة في العقلية الإسرائيلية، لأنها أظهرت القدرة التنظيمية والفكر الاستراتيجي لحركة حماس، وقدرتها على استخدام الأسرى الإسرائيليين كأداة للتفاوض مقابل تحقيق المطالب. بعد صفقة شاليط، برزت المخاوف الإسرائيلية من العواقب المستقبلية لإطلاق سراح قادة أسرى فلسطينيين، خصوصاً القادة الذين يمتلكون رؤية قيادية واستراتيجية، مثل الشهيد يحيى السنوار، مهندس عملية 7 أكتوبر 2023 وأحد الأسماء التي شغلت الاحتلال، حتى أصبح "القضاء" عليه ضمن الأهداف الإسرائيلية.
يحيى السنوار: من الأسر إلى التخطيط الاستراتيجي
يعد يحيى السنوار أحد أبرز الشخصيات القيادية في حركة حماس، فقد أثبت خلال فترة أسره أنه مفكر استراتيجي قادر على دراسة العقلية الإسرائيلية بدقة. خلال سنوات اعتقاله، حرص السنوار على فهم بنية المجتمع الإسرائيلي، واستيعاب كيفية تفكير جهازه الأمني، والثغرات الممكن استغلالها، إضافة إلى معرفة العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤثر على صانعي القرار في تل أبيب.
هذا التخطيط العميق لم يكن مجرد استعداد للحرية، بل كان جزءاً من رؤية طويلة الأمد. حيث صاغ السنوار خططه بعناية ليكون كل تحرك له بعد الإفراج متسقاً مع هدف أكبر وهو تحرير أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين. هذه الرؤية لم تكن مفاجئة، بل كانت امتداداً للفلسفة التي قادت صفقة شاليط، مع إضافة بُعد تكتيكي جديد يتعلق بالكم الأكبر للأسرى الذين يمكن تحريرهم.
عملية 7 أكتوبر: محاولة إحياء تجربة شاليط
في سياق عملية 7 أكتوبر 2023، بدا واضحاً أن عقلية السنوار كانت تعمل في تخططيها على إعادة إحياء تجربة صفقة شاليط، ولكن بطريقة أكثر شمولية. العملية صممت لإحداث أكبر ضغط ممكن على "إسرائيل"، بحيث يصبح الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ضرورة لا يمكن للاحتلال تجاهلها. وهذا ما جاء في تصريحات حماس عقب العملية وأن هدفها هو "الدفاع عن المسرى وتحرير الأسرى من سجون الاحتلال"، ما يعكس أن العملية استهدفت النقاط الضعيفة عند الإسرائيلي على مبدأ أن كل رهينة يمثل وسيلة لتحقيق مكاسب ملموسة للفلسطينيين.
ما يميز هذه العملية هو حجم التخطيط الذي سبق تنفيذها، والذي ظهر جلياً في اختيار الأهداف والعمليات الميدانية المصاحبة لها. السنوار أراد أن تكون العملية بمثابة صفعة تجبر "إسرائيل" على تقديم تنازلات ملموسة، كما حدث في صفقة شاليط، لكن هذه المرة بعدد أكبر من الأسرى.
بالفعل تركت عملية 7 أكتوبر آثاراً نفسية وعسكرية واضحة في المجتمع الإسرائيلي وجهازه الأمني. العديد من الضباط الإسرائيليين الذين شاركوا في العمليات لاحقاً أبدوا ندمهم على الإفراج عن السنوار سابقاً، معتبرين أن تحريره كان "خطوة مكلفة على المستوى الاستراتيجي". وظهر خلال تصريحاتهم أنهم أدركوا القدرة التخطيطية العالية للسنوار منذ أن كان سجيناً وفاوضهم من داخل السجن وكسب الجولة.
هذه التجربة عززت المخاوف لدى الاحتلال من أن أي صفقة مستقبلية لإطلاق سراح القادة الأسرى، خصوصاً أولئك الذين يمتلكون خبرة ميدانية وتخطيط استراتيجي، لأنهم "أدوات يمكن أن تتحول إلى قوى مؤثرة بمجرد خروجهم من السجن". بالتالي تتعاظم المخاوف من تكرار تجربة 7 أكتوبر ثانية. لأن "إسرائيل" تدرك جيداً أن الإفراج عن هؤلاء القادة يمكن أن يعيد إنتاج سيناريوهات مماثلة، وربما أكبر، نظراً لتراكم الخبرة العسكرية والسياسية لديهم وما اكتسبوه خلال فترة أسرهم، ولذلك منع الاحتلال مؤخراً السجناء من متابعة تحصيلهم العلمي والثقافي داخل السجن.
يمكن القول إن تجربة السنوار و7 أكتوبر أعادت طرح مسألة الأسرى من منظور جديد لدى الاحتلال. فالأسرى ليسوا أرقاماً بل عناصر مؤثرة يمكنها إعادة رسم المعادلات السياسية والعسكرية. وكذلك إحداث حالة في مجتمعهم وبناء قاعدة شعبية كبيرة تدعمهم في خياراتهم كما حصل مع السنوار الذي حصد شعبية كبيرة لا سيما في قطاع غزة بعد تحريره. وهذا يعد اختباراً لقدرة "إسرائيل" على مواجهة قادة يمتلكون معرفة عميقة بها وبمجتمعها ما يترك أثراً نفسياً على المجتمع الإسرائيلي الذي أصبح هشاً بفعل الانتكاسات المتتالية خصوصاً في العامين السابقين، وقدرة على تحويل هذه المعرفة إلى أفعال مؤثرة على الأرض جراء ما عانوه من قهر وحرمان كما يذكر السنوار عن طفولته في مخيم خان يونس بغزة بعد تهجير عائلته إلى هناك.
الكاتب: غرفة التحرير