 
                                            منذ سقوط حلب بيد هيئة تحرير الشام أواخر عام 2024، تكاثرت الدراسات الغربية والصهيونية التي تناولت التحول السوري الجديد بوصفه انتصاراً على "نظام الممانعة" وبداية لمرحلة تابعة للغرب. هذه المراكز عملت على صياغة سردية إعلامية تصف زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني (الذي بات يُشار إليه بـ"الشرع")، كقائدٍ براغماتي يمثل الإسلام السياسي المعتدل، لا الجهاد التكفيري. وقدّمت صورته كمنقذٍ للمجتمع السوري من أزماته، مستخدمةً مشاهد "الفرح" والطمأنينة عبر الإعلام ومواقع التواصل لتجميل الحدث وإقناع الرأي العام الغربي بجدوى هذا التحول.
تجمع هذه الدراسات على ثلاث مراحل مفصلية في المشهد السوري الجديد:
المرحلة الأولى: سقوط نظام الممانعة وصعود نظام التبعية.
في هذه المرحلة، روّجت المراكز البحثية لصورة الجولاني بوصفه القائد القادر على إدارة الأزمات، مستشهدة بتجربته في إدلب، وتواصله مع الأقليات، وتصريحاته حول إسلام "مرن" يسمح بالتدخين والسفور. وقد طُرحت فكرة أن العدو المشترك لسوريا الجديدة هو إيران وحزب الله، لا إسرائيل. كما سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تظهير "الشرع" كزعيم مؤهل لقيادة مرحلة انتقالية تحت شعار العفو والمصالحة. ومع ذلك، ظلت التساؤلات حول خلفيته الجهادية ومصير المقاتلين الأجانب حاضرة بقوة.
المرحلة الثانية: البناء الجديد وما رافقه من تحديات.
مع بداية 2025، انطلقت موجة من الدعوات الدولية لرفع العقوبات عن سوريا، بحجة دعم إعادة الإعمار و"التحول السياسي". استُخدمت مؤتمرات العقبة والرياض وباريس كمنصات لترويج فكرة أن سوريا الجديدة يمكن أن تكون نموذجاً إصلاحياً إذا التزمت بالشروط الغربية: اللامركزية، احترام الحريات، ودمج الفصائل في جيش وطني موحد.
في المقابل، ربطت إسرائيل والولايات المتحدة رفع العقوبات بسلوك السلطة الجديدة تجاه إيران وحزب الله، فيما استُخدمت "مجزرة الساحل" وملف الأقليات لتبرير تدخلات عسكرية وإعلامية بحجة مكافحة الإرهاب.
في هذه الفترة، بدأ خطاب الغرب يتجه نحو مقارنة بين "إجرام الأسد" و"اعتدال الشرع"، مع تبريرٍ متزايد لبقائه في الحكم إذا التزم بمسار السلام. كما ظهرت بوادر تقارب مع قوات "قسد" من خلال اتفاق دمجها في الإدارة الجديدة، في محاولة لإعادة تشكيل المشهد الأمني ضمن خطوط أميركية واضحة.
المرحلة الثالثة: المراوحة والتطبيع.
من نيسان إلى آب 2025، تحولت النقاشات إلى التطبيع مع إسرائيل، حيث تم الكشف عن لقاءات بين مسؤولين من الجانبين في الإمارات والسعودية. واعتبرت الدراسات أن التفاهم بين "الشرع" وإسرائيل يشكّل حجر الأساس للاستقرار الإقليمي ومنع عودة النفوذ الإيراني.
لكن الأحداث في السويداء فجّرت أزمة جديدة، إذ وُصفت السلطة بأنها تمارس تمييزاً طائفياً تحت غطاء الأمن، ما دفع بعض الدروز للمطالبة بالحماية الإسرائيلية. وفي الوقت ذاته، أصبح النقاش حول اللامركزية ومستقبل قسد أحد أعقد ملفات التفاوض الداخلي، بينما استمر الحديث عن ضرورة بقاء القوات الأميركية شرق الفرات لضمان السيطرة على النفط ومنع أي فراغٍ تستفيد منه موسكو أو طهران.
في السياق الدولي، رأت إسرائيل في التحول السوري فرصةً لتثبيت واقعٍ جديدٍ في الجولان وتعزيز التعاون الأمني مع دمشق الجديدة، بل ودعم مشاريع نقل الطاقة عبر أراضيها. أما الصين، فوجدت في الخراب السوري ساحة استثمارٍ واعدة ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، بينما سعت واشنطن إلى الحد من نفوذها عبر استخدام ورقة "المقاتلين الإيغور". روسيا، من جانبها، وُضعت في موقع الخاسر، إذ فُرض عليها التراجع عن مشاريعها في الموانئ السورية لصالح شركات خليجية وأميركية.
الخلاصة:
تشير معظم الدراسات إلى أن الهدف النهائي من هذه السرديات هو تثبيت النظام الجديد بوصفه بديلاً "قابلاً للتطويع"، وتهيئة الرأي العام لقبوله، مع تحويل سوريا من دولة مقاومة إلى ساحة تنسيق إقليمي بين إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة.
فالمطلوب من دمشق الجديدة ليس فقط الابتعاد عن محور المقاومة، بل أيضاً ضمان ألا تُستعمل أراضيها أو مواردها في أي نشاط يضر بالمصالح الأميركية أو الإسرائيلية. ولهذا جرى التركيز على إبقاء سوريا دولة مستهلكة تعتمد على استيراد القمح والطاقة، ومنزوعة الإرادة الاقتصادية والعسكرية.
إن ما تسميه هذه المراكز بـ"سوريا الجديدة" ليس إلا إعادة صياغة للشرق الأوسط على مقاس الهيمنة الأميركية-الإسرائيلية، حيث يجري استبدال الانقسام القديم (ممانعة/تبعية) بنظام إقليمي موحد تحت راية التطبيع والأمن المشترك، لتُطوى بذلك صفحة الممانعة التي شكلت يوماً هوية سوريا ودورها في محور المقاومة.
الكاتب: غرفة التحرير