في الحروب الحديثة، لا تنتهي المعارك عندما تصمت المدافع. فالغزو العسكري ليس سوى المقدمة الخشنة لإعادة تشكيل الخرائط السياسية والعقل الجمعي للمجتمعات المقهورة. ما يجري اليوم في غزة، بعد وقف إطلاق النار الأخير، ليس "نهاية حرب"، بل بداية مرحلة أكثر تعقيدًا — مرحلة يُعاد فيها هندسة المعنى، والسيطرة، والتاريخ. هذه هي "المرحلة الانتقالية" التي تصوغها واشنطن، وتنفذها تل أبيب، ويعيشها الفلسطينيون بين ركام بيوتهم، وجغرافيا الوجع، وسوسيولوجيا الصمود.
لقد رسّخت الإدارة الأميركية مفهومًا جديدًا في إدارة الحروب: لا احتلال مباشر طويل، ولا انسحاب كامل، بل إدارة هجينة تدمج بين القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية والنفسية. في غزة، يبدو هذا النموذج في أوج فعاليته. الولايات المتحدة، التي رعت اتفاق شرم الشيخ، تسعى إلى تثبيت حالة "اللا حرب – اللا سلم"، حيث تظل المقاومة تحت ضغط دائم، ويظل الاحتلال في موقع المراقب المسلح، وتُبرَّر كل التجاوزات تحت شعار "التنفيذ المرحلي للاتفاق".
منذ أسبوعين فقط على وقف إطلاق النار، اتضح أن ما يسمى بـ"المرحلة الأولى" لم يكن سوى تثبيت لمعادلة السيطرة الجزئية: انسحاب "إسرائيلي" من نصف القطاع، مع بقاء الطائرات في الجو، والدبابات على الأطراف، والقرار الفعلي في يد واشنطن. أما "حماس"، فتُقدَّم في الخطاب الأميركي كفاعل مؤقت، يُسمح له بإدارة الأمن الداخلي وفرض النظام، بشرط أن يتحول تدريجيًا من مقاومة مسلحة إلى سلطة مدنية قابلة للضبط. هذا التحول المقصود ليس مكافأة، بل فخّ استراتيجي يُراد له أن يُفرغ فكرة المقاومة من جوهرها، ويحوّلها إلى وظيفة.
الإمبراطورية حين تصنع السلم على مقاسها
في المنظور الأميركي، ليست غزة مجرد مساحة جغرافية؛ إنها مختبر لإعادة هندسة العلاقة بين المقاومة والسلطة. واشنطن تدفع باتجاه جعل الحركات التحررية في المنطقة — من حماس إلى حزب الله — كيانات سياسية "منزوعة الخطورة"، يمكن احتواؤها ضمن منظومة التوازن الإقليمي، من دون أن تشكل تهديدًا حقيقيًا لـ"إسرائيل". والوسيلة المفضّلة لتحقيق ذلك هي "الانتقال المرحلي" الذي يجمع بين الترغيب بالشرعية الدولية، والتهديد بالعودة إلى الإبادة.
لكن هنا تكمن المفارقة الجوهرية: فالإمبراطورية، التي تدّعي صناعة الاستقرار، هي نفسها من زرعت الفوضى، وأطلقت آلة القتل، وتغذّي اليوم الانقسام باسم "السلام". كل مرحلة انتقالية في المنطق الأميركي هي مرحلة هيمنة ناعمة تُدار من وراء الستار، وتُفرض فيها شروط المنتصر حتى لو كانت الجبهات ساكنة. بهذا المعنى، لا يختلف ما يجري في غزة عن تجربة العراق أو أفغانستان أو لبنان، إلا في طبيعة المجتمع الذي يواجه آلة الإخضاع.
جغرافيا الوجع: الأرض التي لا تُستسلم
غزة، كما يعرفها العالم اليوم، ليست مجرد شريط ساحلي محاصر، بل مختبر أخلاقي للإنسانية المعاصرة. كل بيت مدمَّر فيها هو وثيقة إدانة لنظام دولي يرى في حياة الفلسطيني "قيمة تفاوضية". "الإسرائيلي، الذي يحتل نصف القطاع، يمنع الأهالي من العودة إلى منازلهم، ويقصف من يقترب. حادثة إبادة عائلة أبو شعبان المكوّنة من ثمانية أفراد لم تكن خطأً ميدانيًا، بل جزءًا من نمط استراتيجي يقوم على الردع عبر الإبادة المبرمجة. ومع ذلك، يستمر الفلسطينيون في إعادة بناء ما تهدم، في مشهد يختصر جوهر الصراع بين من يمتلك أدوات التدمير، ومن يمتلك إرادة البقاء.
إنها جغرافيا الوجع التي لا تخضع لخرائط الاحتلال. فكلّ انسحاب جزئي يقابله تمدد في الوعي الجمعي بالمقاومة، وكل مجزرة تنتج ذاكرة جديدة، أكثر صلابة. هذا هو الفشل التاريخي للمشروع "الإسرائيلي": أنه يربح المعارك التكتيكية، لكنه يخسر المعركة الأنثروبولوجية أمام مجتمع يحوّل الألم إلى هوية.
سوسيولوجيا الصمود: حين تصبح المقاومة نسق حياة
في العمق، لم تعد المقاومة في غزة تنظيمًا أو جناحًا عسكريًا، بل بنية اجتماعية مكتملة. إنها ثقافة ممتدة في النسيج اليومي، في المدارس والمستشفيات والمخيمات. لهذا تخشى تل أبيب من فكرة "الاستقرار" أكثر من الحرب نفسها، لأن الهدوء يمنح الفلسطينيين فرصة لإعادة ترتيب قدرتهم على الصمود. ما تراه "إسرائيل" "إعادة تسلح" هو في الواقع عملية اجتماعية شاملة لاستعادة التوازن داخل مجتمع جُرّد من كل مقومات الحياة.
تقديرات "الجيش الإسرائيلي" بأن حماس تعيد بناء قوتها وتملأ الفراغات القيادية صحيحة جزئيًا، لكنها تفشل في إدراك أن الحركة لم تعد وحدها في الميدان، بل أصبحت مظلة ثقافية — اجتماعية تخلق أدواتها داخل كل بيت. هذه ليست مجرد عودة تنظيمية، بل مقاومة اجتماعية تحول الخسارة إلى طاقة.
واشنطن وإعادة تعريف "الشرعية"
المرحلة الانتقالية الراهنة تكشف عمق المأزق الأميركي: فواشنطن تريد استقرارًا يخدم "إسرائيل"، لكنها تدرك أن استمرار الفوضى يضعف نفوذها الإقليمي. لذلك تسعى إلى تسوية براغماتية تمنح الفلسطينيين "أملًا مشروطًا" دون حقوق حقيقية، وتحافظ في الوقت ذاته على الدور الأمني "الإسرائيلي". هذا ما يجعل الإدارة الأميركية أكثر تصميمًا من "إسرائيل" نفسها على المضي في الاتفاق، ولو عبر الضغط والتهديد، لأن فشل الاتفاق يعني انهيار كامل لسياسة "التطبيع مقابل الأمن".
في المقابل، يدرك نتنياهو أن أي تسوية حقيقية، حتى ولو كانت شكلية، ستقوّض سردية اليمين "الإسرائيلي" الذي يعيش على تغذية الخوف والعداء. لذلك يفضّل البقاء في دائرة "التهدئة المتوترة"، حيث يمكنه الحفاظ على تعبئة داخلية، واستمرار الدعم الأميركي، دون أن يقدم شيئًا للفلسطينيين.
النهاية المفتوحة
المرحلة الانتقالية، بهذا المعنى، ليست مرحلة سلام، بل اختبار طويل لصمود فكرة المقاومة في وجه نظام عالمي يحاول نزع معناها. واشنطن تمارس هندسة دقيقة لوعي المنطقة، عبر تحويل المقاومة من كفاح ضد الاحتلال إلى "ملف تفاوضي"، و"إسرائيل" تسعى إلى تجميد الصراع على حالته، وتحويل غزة إلى "لبنان جديد" يمكن ضربه متى شاءت دون كلفة سياسية.
ومع ذلك، ما تزال هناك معادلة واحدة لا يمكن كسرها: أن المجتمع الذي يتشبث بالحياة رغم الركام، لا يمكن إخضاعه طويلًا. في جغرافيا الوجع هذه، حيث لا حدود للدم، تنشأ سوسيولوجيا الصمود التي تعيد تعريف معنى النصر. فالنصر ليس ما يُعلن في المؤتمرات، بل ما يُبنى في أنقاض البيوت — هناك، حيث تواصل غزة تعليم العالم أن أقسى المراحل الانتقالية يمكن أن تكون بداية التاريخ لا نهايته.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com