اعترافات المبعوث الأمريكي توم براك لم تكن مجرد مقال توصيفي تعبر عن قناعاته؛ بل إقرار صريح بأن المخطط الأميركي لنزع سلاح المقاومة اصطدم بجدار الواقع اللبناني، فموازين القوى رغم كل التطورات الدراماتيكية خلال السنتين الماضيتين ما تزال لغير صالح الأمريكيين والإسرائيليين، براك وصف ما جرى على أنه فشل في الرهان على الجيش اللبناني الذي يفتقر الى السلطة، وعلى ضعف الحكومة التي وصفها بالمشلولة طائفياً، والمنقسمة على نفسها، ما حوّل مشروع "نزع السلاح" إلى مناورة سياسية قائمة على الضغط الإعلامي والأمني أكثر منها خطة تنفيذية قابلة للتحقق. هذا الاعتراف يربط مباشرة بين الحملة الإعلامية والسياسية وبين الاستعراضات العسكرية الإسرائيلية الهادفة لفرض إملاءات سياسية على بيروت، لا لبدء حرب واسعة تُجهد إسرائيل، ولن تبدأها دون ضمانة وغطاء أميركي كامل.
التصعيد الإسرائيلي الميداني -من الطائرات المسيّرة التي لم تغادر منذ يوم الأحد سماء لبنان من جنوبه الى شرقه مرورا بالضاحية الجنوبية والعاصمة بيروت وصولا الى مشارف القصر الرئاسي في بعبدا إلى مناورة عسكرية على الحدود اللبنانية شملت تدريبًا على دخول مقاتلين من لبنان بطائرات شراعية_ كلها تندرج في منطق «الضغط السياسي المركّز» لإخضاع لبنان وحكومته والقبول بالتفاوض المباشر مع إسرائيل وتقديم التنازلات تحت النار، لا سيما ان المناورة الإسرائيلية على الحدود اقتصرت على فرقة واحدة جغرافية دون استقدام فرق أخرى وألوية مدرعة ما يبيّن أن الهدف دفاعي، ورسائل ضغط سياسية لخلق حالة نفسية، وورقة تفاوضية ضد لبنان.
هذا التصعيد جاء بعد تطابق وجهات النظر لدى الرؤساء الثلاثة على مبدئ التفاوض غير المباشر مع العدو، وعدم ثقة لبنان بالعدو الإسرائيلي الذي لم يلتزم يوماً بأي من القرارات الدولية بما فيها القرار 1701 وقد رماه خلفه، ويريد اتفاقاً جديدا مع لبنان، اتفاق استسلام لا سلام، يبدأ بنزع السلاح ولا ينتهي بإعطاء الشرعية لوجوده في حزام أمني عازل يشمل كل منطقة جنوب النهر التي فشل في احتلالها عسكرياً خلال عدوان ال67 يوما، هذه المنطقة العازلة هي جزء من الاستراتيجية والعقيدة الأمنية الإسرائيلية الجديدة (القديمة) القاضية بتوسيع المناطق العازلة حول الكيان في كل دول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن، ومصر) وصولاً الى مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي أعلن عنه بوضوح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو.
ترميم القدرات: سِرّية وغموض ومفاجآت محتملة
في مقابل هذا الضغط الإسرائيلي والأمريكي ثمة واقع ميداني مغاير حيث تؤكد التصريحات المعلنة لبعض قيادات الحزب والمعلومات أن حزب الله أنهى مرحلة إعادة بناء وترميم قدراته العسكرية بقدر كبير من السرية والغموض. العمل الذي جرى لم يقتصر على ترميم المخزون التقليدي من السلاح، بل شمل إدخال تكتيكات عسكرية جديدة، وتعزيز غرفة القيادة والسيطرة. وقد جرت إعادة البناء تحت غطاء استخباراتي محكم وبوتيرة ممنهجة، ما يجعل الكشف العلني عن تفاصيلها شبه مستحيل.
الغموض هنا جزء من الاستراتيجية القديمة الجديدة للحزب بهدف الاحتفاظ بعنصر المفاجأة الذي يزيد من الفاعلية ويُعيد بناء الردع. فالجناح العسكري الجهادي في الحزب ينتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة لتوجيه ضربات قوية ومدروسة في مراكز ثقل العدو لتُعيد توازن الردع. المعادلة ليست فقط كمية -عدد الصواريخ أو الأسلحة- بل كيفية استعمالها، توزيعها، وربطها بخيارات تكتيكية مفاجئة مختلفة عن الحرب السابقة قد تُفاجئ المنظومة العسكرية الإسرائيلية في حال ارتكبت خطأ استراتيجيًا.
قرار الحرب في واشنطن لا تل أبيب
آداء ترامب الأخير لا سيما بعد فرضه اتفاق وقف إطلاق النار على نتنياهو وفق الإعلام العبري يشي بأن قرار الحرب على لبنان او حتى إيران لم يعد قراراً آحادياً إسرائيلياً، بل هو قرار أميركي أولاً، فهل من مصلحة واشنطن شن حرب واسعة على لبنان، وفيه سلطة سياسية دعمتها وأوصلتها الى الحكم! وهل تذهب إدارة ترامب الى مغامرة غير محسوبة مع المقاومة تخسر فيها مكتسباتها الأخيرة؟!
لا شك أن أمريكا الدولة العميقة تزن حساباتها الإقليمية السياسية والاقتصادية والداخلية قبل منح الضوء الأخضر لحرب جديدة. هذا الواقع يجعل تصعيدًا إسرائيليًا واسعاً غير مرجّح في المستوى المنظور، لا سيما أن تكلفة المواجهة قد تتجاوز مكاسبها المعلنة بكثير هذه المرة.
لهذا يبدو أن ما يجري هذه الأيام وبعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة هو حملة ضغط جديدة متعددة الوسائط تهدف لابتزاز لبنان سياسياً وميدانياً، لكنها تفتقد المؤشرات التي تدفع إلى حرب واسعة. ومع ذلك، يبقى الحذر واجباً، وعلى صانعي القرار في بيروت مراقبة واشنطن التي تملك الكلمة الأخيرة في تحديد مصير هذه الجولة العسكرية إن وقعت وهي غير مرجحة للأسباب التي أشرنا إليها، مع ان المنطق والعقل لم يعد يحكم الآداء السياسي التقليدي في تل أبيب وواشنطن، حيث عامل الخديعة والغدر قائم في السياسة الأمريكية والإسرائيلية، وقد يرتكب هذا الثنائي المجرم خطأ استراتيجياً آخر بالعودة الى الحرب في أي لحظة. مضافاً اليه حديث الإعلام الإسرائيلي المتزايد خلال الأيام القليلة الماضية عن إعادة الحزب بناء نفسه، وان "إسرائيل وصلت الى حائط مسدود، حزب الله يرفض التفكك، وإيران تسابق الزمن نحو القنبلة "وفق القناة الرابعة عشرة العبرية.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.
mshamass110@yahoo.com