منذ نهاية الحرب الباردة، شهدت العقيدة الجوية الأمريكية تحولًا جذريًا نحو نظريات تُبشر بالحسم السريع من الجو، وعلى رأسها نظرية العقيد جون واردن المعروفة بـ "الحلقات الخمس". هذه النظرية، التي استُخدمت في حرب الخليج عام 1991، قامت على فرضية أن استهداف مراكز القيادة والسيطرة كفيل بإحداث الشلل الكامل في دولة العدو، وبالتالي تحقيق النصر بأقل تكلفة بشرية.
لكن هذه الفرضية، رغم انتشارها داخل المؤسسات العسكرية، لم تصمد أمام اختبارات الواقع، كما بيّن العديد من المحللين العسكريين، أبرزهم مايك بيتروتشا. في المقابل، ومع تغيّر طبيعة الحروب الحديثة نحو نماذج غير متماثلة وشبكية، برزت الحاجة إلى نماذج أكثر واقعية، مثل مفهوم القيادة التكيفية الذي طوّره رونالد هايفيتز وطبّقه برنت غليسون عمليًا كإطار فعال في بيئات معقدة ومتغيرة.
أولًا: نقد نظرية الحلقات الخمس
التبسيط المفرط لطبيعة الدولة
تفترض النظرية أن الدولة كيان موحّد يدار من مركز قيادة مركزي، وأن ضرب هذا المركز يؤدي تلقائيًا إلى الانهيار. إلا أن هذا التبسيط لا ينسجم مع الواقع، إذ أن معظم الأنظمة، حتى الاستبدادية منها، تعتمد على هياكل توزيع سلطة معقدة. في الحالة الإيرانية، يتوزع القرار بين المرشد الأعلى، الحرس الثوري، الحكومة، والمؤسسات الأمنية، مما يجعل فكرة "الشلل بضربة واحدة" غير قابلة للتحقق.
إخفاقات متكررة في التجربة العملية
رغم الاعتماد عليها في العراق (1991 و2003)، أفغانستان، صربيا، ومحاولات استهداف قيادات القاعدة وداعش، لم تحقق هذه النظرية الانهيار المنشود. ويشبّه بيتروتشا هذا التصور بمطاردة "سراب استراتيجي" يقوم على أوهام لا تتحقق في الواقع.
تجاهل أهمية الاعتراض الجوي
تغفل النظرية الدور التاريخي والحاسم لعمليات الاعتراض الجوي (Interdiction) التي تركز على تعطيل الإمدادات والبنية التحتية. فعلى سبيل المثال، أدت هذه العمليات في الحرب العالمية الثانية إلى تعطيل قدرة الجيش الألماني على تعزيز قواته في فرنسا، وفي فيتنام (1972) لعبت حملة Linebacker I دورًا حاسمًا في شل قدرات فيتنام الشمالية. وفي العراق، سببت عمليات الاعتراض تفكك القوات قبل الدخول في اشتباك بري.
ثانيًا: القيادة التكيفية كإطار واقعي بديل
- تبنّي الغموض كفرصة: ترى القيادة التكيفية أن عدم اليقين ليس عائقًا بل فرصة للتأقلم. في حالة إيران، حيث تتداخل الردود التقليدية وغير المتماثلة، تصبح هذه المرونة ضرورة لا رفاهية.
- تعزيز ثقافة التعلّم: تقوم هذه القيادة على استخلاص العِبر من التجارب السابقة، وتفادي تكرار الأخطاء. وهي فلسفة تُعلي من أهمية تراكم المعرفة والاستعداد لصراعات طويلة، بدلًا من التعويل على صدمات سريعة.
- تمكين الفرق الميدانية: في بيئات ديناميكية، تفشل المركزية المفرطة. لذا تعتمد القيادة التكيفية على تفويض واسع للوحدات الميدانية في اتخاذ القرار، ما يُكسب العمليات سرعة ودقة واستجابة فعالة للواقع الميداني.
- بناء مرونة مؤسساتية: تعني المرونة هنا قدرة المؤسسة العسكرية على امتصاص الضربات والاستمرار في العمل، عبر شبكات لا مركزية، قنوات اتصال متعددة، وخطط بديلة جاهزة.
- القيادة الهادفة: تؤمن هذه الفلسفة بأن وضوح الهدف الاستراتيجي والسياسي يعزز تماسك الدولة أثناء الحروب. فالقيادة ليست فقط إدارة عسكرية بل مشروع وطني جامع، كما في حالة إيران التي جعلت من "الصمود والسيادة" عنوانًا لكل تحركها العسكري والسياسي.
ثالثًا: الهجوم على إيران وفشل الحسم الاستراتيجي
في مواجهة استمرت 12 يومًا، شنّت الولايات المتحدة هجومًا جويًا مركزًا على إيران، مستندة إلى نظرية الحلقات الخمس. طالت الضربات مراكز القيادة، الدفاعات الجوية، والمنشآت النووية والصاروخية.
رغم شدة الضربات، لم تنهار القيادة الإيرانية. على العكس، تم تعيين قادة بدلاء بسرعة (كانت أسماء البدلاء جاهزة قبل الحرب تحسبًا لعمليات الاغتيال) وأُعيد تفعيل شبكات القيادة والسيطرة، بينما تحركت وحدات الحرس الثوري وفق خطط طوارئ معدّة مسبقًا.
الرد الإيراني
- نفذت إيران هجمات صاروخية دقيقة على أهداف داخل الكيان الصهيوني.
- قصفت قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر في اليوم الأخير من الحرب.
- أظهرت القدرة الإيرانية نجاحات التكيّف العملياتي، واستيعاب الضربات دون فقدان السيطرة.
مؤشرات القيادة التكيفية في الأداء الإيراني
- تبنّي عدم اليقين: تعاملت إيران مع الغموض كجزء من الواقع، فكانت جاهزة للهجوم رغم المفاجأة، وفعّلت خططًا بديلة فورًا.
- الاستفادة من التجارب السابقة: من حرب العراق، إلى اغتيال سليماني، وصولًا إلى الهجمات السيبرانية، راكمت إيران خبرات عزّزت مناعتها القيادية.
- تمكين القيادات الميدانية: أوكلت إيران مسؤولية الرد إلى وحدات الحرس الثوري ميدانيًا، ونُفذت الهجمات بطريقة منظمة وفعالة.
- المرونة المؤسساتية: اعتمدت إيران على شبكة قيادة لا مركزية، وبنية اتصالات مرنة، جعلت الضربات الجوية غير كافية لتحقيق الشلل.
- القيادة الهادفة: كان الهدف السياسي واضحًا: الصمود والسيادة. وهذا ما أعطى المعركة معنىً أكبر من مجرد رد فعل عسكري.
خاتمة
أثبت الهجوم على إيران فشل نظرية الحلقات الخمس، التي لا تتناسب مع تعقيدات الحروب الحديثة. في المقابل، قدّمت القيادة التكيفية نموذجًا ناجحًا لإدارة الصراع، قائمًا على المرونة، التعلم، التمكين، والهدف الواضح.
إن الحروب الحديثة لم تعد تُحسم بضربة جوية مركزة، بل بإستراتيجية تراكمية، ذكية، ومتكيّفة. لذلك، فإن المستقبل العسكري يجب أن يُبنى على نماذج قابلة للتنفيذ، وليس على نظريات أثبت الواقع قصورها.
الكاتب: غرفة التحرير