ألكسندر دوغين هو مفكر روسي وعالم سياسي وعالم اجتماع، وهو رئيس العلاقات الدولية في كلية علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية، والأهم، أن دوغين هو منظّر الحركة الأوراسية الدولية إضافة إلى أنّه مؤلف النظرية السياسية الرابعة وهي الخطوة التالية لانتهاء المدارس السياسية الثلاث الليبرالية والاشتراكية والفاشية. وفي عام 2014 أدرجت مجلة فورين بوليسي دوغين ضمن أفضل 100 مفكر عالمي في العالم الحديث، وعليه فإن هذا الرجل عندما يكتب أو يقول، ستعمد مراكز الغرب إلى التقاط ما خلف الجمل والسطور.
في مقاله الأخير الذي نشره موقع الميادين تحت عنوان "عام على الحرب الأوكرانية: من عملية روسية خاصة إلى حرب شاملة"، يحاول دوغين إدارة التوقعات على أساس الواقع على الأرض، واستشراف ما الذي يمكن أن يقبله طرفي النزاع ويستبعد من لا يمكن قبوله، في هذا القسم بالذات، قرأ دوغين الواقع وتحدث عنه بأسلوب المؤثر النفسي الصادر عن أبو النظرية الأوراسية الذي لا يرى إلا بالعين الاستراتيجية. فبعد أن استعرض دوغين نجاحات وإخفاقات جميع أطراف النزاع بما فيها تغيير الخطط الروسية بسبب حسابات خاطئة في التخطيط الاستراتيجي، ظهرت بعد النجاحات الحقيقية عند بداية الحرب، وأداء أوكرانيا الجيد نسبة للروح المعنوية المشبعة بالروسوفوبيا. بدأ المفكر الروسي بإعطاء الخيارات الوحيدة للكتلة الغربية والتي لا تتضمن أبدًا بأي شكل من الأشكال ولا حتى نصف هزيمة روسية، وكل شي غير ذلك دونه الحرب النووية، على قاعدة نظام عالمي ليس فيه روسيا ليس موجودًا.
دور الروسوفوبيا في الحرب
أورد دوغين في مقاله كثيرًا كلمة الروسوفوبيا أي الرهاب من روسيا، ولو أن ثمة عنوان آخر للمقال سيحتوي على هذه الكلمة، إذ تحدّث عن ثماني سنوات من الدعاية المكثفة أي منذ العام 2014 تاريخ ضمّ القرم إلى روسيا الاتحادية، حيث غرست الدعاية الغربية بالقوة، الرهاب من روسيا، والقومية الهستيرية المتطرفة في المجتمع الأوكراني يومًا بعد يوم. كانت الغالبية العظمى من شرق أوكرانيا (نوفوروسيا) ونصف أوكرانيا الوسطى تميل بشكل إيجابي إلى روسيا، رغم أن السكان لم يكونوا جذريين مثل سكان شبه جزيرة القرم والدونباس. فقد تغيّر هذا التوازن في عام 2022 حيث ارتفع مستوى الكراهية تجاه الروس بشكل كبير. وقد تمّ قمع التعاطف المؤيد لروسيا بعنف، غالباً من خلال القمع المباشر والعنف والتعذيب والضرب. على أي حال، أصبح أنصار موسكو الناشطون في أوكرانيا سلبيين ومرعوبين، في حين أن أولئك الذين كانوا مترددين سابقاً قد انحازوا أخيراً إلى "النازية الجديدة" الأوكرانية، بعدما شجّعهم الغرب بكل طريقة ممكنة، يعتقد دوغين أن ذلك جرى لأغراض عملية وجيوسياسية بحتة. وكنتيجة لذلك، فقط بعد انقضاء عام، أدركت موسكو أخيراً أن هذه لم تكن عملية عسكرية خاصة، لكنها حرب شاملة.
التلويح بالإبادة النووية: نعم يمكن أن يحصل ذلك
كان لابدّ لدوغين أولًا أن يعرض لمراحل الحرب أيضًا وتقييمها قبل أن يبدأ باستخدام الواقع والمنطق في عرض التوقعات، حتى بدت حربًا نفسية نووية تبيد أي خاطر يمكن أن يشي بهزيمة روسية. بدأ باستعراض أسباب استخدام الأسلحة النووية حيث تمت مناقشة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية والأسلحة النووية الاستراتيجية على جميع المستويات، من قبل الحكومات إلى وسائل الإعلام. وحيث أنها لم تعد فقط عملية عسكرية بل أصبحت حربًا شاملة بين روسيا والغرب، لم يعد هذا الاحتمال نظرياً بحتاً وأصبح نقاشاً يتزايد ذكره من قبل أطراف النزاع المختلفة. ليبدأ بعدها باستعراض القدرات النووية لروسيا، لكنه استعراض سيتنبأ به خيال المراقب وليس استعراضًا عمليًا، حيث أشار إلى حقيقة الوضع الفعلي في مجال التكنولوجيا النووية بأنه سري للغاية، وعندما يقول سري للغاية فلك أن تتخيل الترسانة التي قال دوغين إنها كافية لتدمير الولايات ودول حلف الناتو. يجزم الرجل أنه ليس لدى دول حلف الناتو الوسائل الكافية لحماية نفسها من ضربة نووية روسية محتملة. لذلك، في حالة الطوارئ، يمكن لروسيا أن تلجأ إلى هذا الخيار الأخير. وقد أوضح بوتين ما قصده بهذا: إذا واجهت روسيا هزيمة عسكرية مباشرة على أيدي دول الناتو وحلفائها، واحتلالاً ما لأراضيها وفقداناً للسيادة، فيمكن لروسيا استخدام الأسلحة النووية. ليقوم بعدها بالإقرار بأن روسيا أيضًا لا تملك معدات الدفاع الجوي من ضربة نووية، ليسلّم بعدها جدلًا بأن ذلك بلا شك سيؤدي إلى تدمير البشرية وربما الكوكب بأسره، بغضّ النظر عمّن يبدأ أولًا، ثم يسأل: هل يمكن أن يصل الأمر إلى ذلك؟ نعم، يعتقد ألكسندر دوغين أنه يمكن إذا تخطت الولايات المتحدة الخطوط الحمر الروسية، وهي هزيمة حاسمة في الحرب في أوكرانيا مع المشاركة المباشرة والمكثفة للولايات المتحدة ودول حلف الناتو في الصراع.
ولكي لا يدع مجالًا للشك بأن ذلك ممكنًا، قال دوغين: "لقد كنا على أعتابها". ثمّ يثبّت قاعدة أساسية في هذا الصراع: "قضية المواجهة النووية لن تُزال من جدول الأعمال إلى الأبد إلا بعد أن تحقّق النصر الكامل".
خيارات الغرب في الحرب: انتصار روسيا فقط
قدم دوغين في قراءته 3 خيارات للغرب لنهاية الحرب في أوكرانيا: وهي عبارة عن 3 سيناريوهات ولكن كلها ضمن واقع الانتصار. الأول انتصار الحدّ الأدنى، وضع جميع أراضي الكيانات الأربعة الجديدة - مناطق جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانساك الشعبية وخيرسون وزاباروجيا تحت السيطرة الروسية الكاملة، فيما يتم بالتوازي مع ذلك نزع سلاح أوكرانيا وتقديم ضمانات كاملة لوضعها المحايد في المستقبل المنظور. كما يجب على كييف أن تعترف بالوضع الحالي للأمور وتقبل به. أما الثاني فهو الانتصار النصفي من خلال تحرير إقليم نوفوروسيا التاريخي بأكمله، والذي يضم شبه جزيرة القرم، والمناطق الأربع الجديدة في الاتحاد الروسي وثلاث مناطق أخرى - خاركوف وأوديسا ونيكولاييف (مع أجزاء من دنيبروبيتروفسكايا أوبلاست وبولتافا). وهذا من شأنه أن يكمل التقسيم المناطقي لأوكرانيا إلى جزئين شرقي وغربي، والتي لكل جزء منها تاريخ وهويات وتوجهات جيوسياسية مختلفة. أما الثالث فهو النصر الكامل بإعادة الوحدة التاريخية من خلال "تحرير أوكرانيا من سيطرة النظام النازي الموالي للغرب" وضم دولة السلاف الشرقيين إلى القوة الأوراسية العظيمة". وعندها فقط سيتم تأسيس التعددية القطبية بشكل لا رجوع فيه، و"سنكون قد قلبنا تاريخ البشرية رأساً على عقب". يقول دوغين.
اللافت أن دوغين حدد للغرب حساباتهم عندما توقع مقبولية السيناريوهات لديهم، بالطيع سيرفض نظام زيلينسكي "الذي يريد توريط العالم بحرب نووية" السيناريوهات الثلاثة، إلا أنه بالنسبة للغرب، فإن الحلّ الأفضل هو سيناريو انتصار الحد الأدنى، وضم إقليم نوفوروسيا أي السيناريو الثاني يقبله من هم ليسوا متعصبين للعولمة من الرؤساء الأمريكيين مثل دونالد ترامب. و سيكون من المفيد للغاية لكييف وللغرب الانتقال إلى اتفاقيات السلام من أجل الحفاظ على بقية أوكرانيا. أما سيناريو النصر الكامل، فيقدم دوغين صورة وردية عما ستكون عليه الأمر بالنسبة للشعب الأوكراني الذي سيصبح جزءً من الأمة الروسية وسيتولى المناصب في الحكومة، وستكون العاصمة القديمة للدولة الروسية مرة أخرى في مركز العالم الروسي (أي في كييف)، وليس على أطرافه. أما بالنسبة للغرب، فيقرأ دوغين الموقف بمنتهى البساطة والسهولة: إنه لن يكون الغرب قد عانى من أضرار جسيمة من الناحية العسكرية الاستراتيجية، بل وأكثر من ذلك من الناحية الاقتصادية. على الرغم من أن روسيا ستبقى معزولة ومشيطنة.
في هذا المقال الذي لم يخلُ من معرفة سياسية وتنظير اجتماعي واستشرافات بالجملة لعالم ما بعد الحرب الأوكرانية بسنة، يتحدث دوغين أيضًا عن تحقق نبوءة هنتغنتون حول صراع الحضارات، حيث غيّرت روسيا نموذجها في العلاقات الدولية من الواقعية إلى نظرية عالم متعدد الأقطاب، ورفضت الليبرالية بشكل مباشر بجميع أشكالها، وتحدّت بشكل مباشر الحضارة الغربية الحديثة - وحرمتها صراحة من حقها في أن تكون عالمية. لقد وضع بوتين النقاط على الحروف لما يمكن للغرب أن يفكر فيه، وجعل روسيا منتصرة بالفعل وبالقوة في هذا المقال.
الكاتب: زينب عقيل