شكّلت معركة "أولي البأس" في خريف عام 2024 محطةً فارقة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، إذ لم تكن مجرد مواجهة ميدانية، بل اختبارًا شاملًا لنضوج تجربة المقاومة عسكريًا وسياسيًا. على امتداد 66 يومًا، تحولت المعركة إلى نموذج في "الحرب الهجينة"، حيث امتزجت المناورة الميدانية الدقيقة بالتصعيد الاستراتيجي المدروس، لتقدم المقاومة صورة عن جيش غير نظامي يملك عقلية تنظيمية حديثة وقدرة على إدارة صراع طويل تحت النار.
انطلقت المعركة في 23 أيلول، بعدما شنّ العدو حربه الواسعة المسماة "سهام الشمال" التي اعتمدت مبدأ الصدمة والترويع، مركّزًا على استهداف البنية التحتية المدنية والعسكرية على حد سواء لإرباك المقاومة وبيئتها. غير أنّ الاغتيال المفاجئ للأمين العام للمقاومة لم يُحدث الانهيار الذي راهن عليه العدو، بل ولّد صدمة معاكسة، إذ حافظت القيادة البديلة على تماسك البنية العملياتية وبدأت الردّ بوتيرة تصاعدية محسوبة. تحولت "الضاحية الجنوبية" من هدفٍ للاغتيال إلى عنوانٍ لثبات القرار، لتبدأ المقاومة مرحلة الردّ النوعي بصواريخ "فادي" و"قادر" التي وصلت إلى تل أبيب، مكرّسةً معادلة الردع الجديدة.
في المرحلة الثانية من الحرب، انتقل العدو إلى المناورة البرية المحدودة، ظنًا أنّه قادر على اختبار دفاعات المقاومة وفتح ثغرات على الحدود. لكن كمين "المحافر" في العديسة كان كفيلًا بقلب المعادلة: وحدة من نخبة "إيغوز" سقطت في كمين محكم، لتتكرّر المشاهد نفسها في مارون الراس ويارون ومربع الموت الممتد من مركبا إلى الطيبة. أظهرت هذه العمليات أنّ المقاومة تقاتل بمنطق "الدفاع المتحرك"، تضرب وتختفي وتعاود الظهور في مكان آخر، مستندة إلى معرفة دقيقة بالأرض وقدرة على الرصد والاستخبارات الميدانية. تحوّلت الحدود الجنوبية إلى شبكة من الأفخاخ المميتة التي استنزفت وحدات النخبة الإسرائيلية وأفقدتها المبادرة.
وعندما قرر العدو توسيع الهجوم في المرحلة الثالثة، زجّ بخمس فرق عسكرية في محاولة لفرض أمرٍ واقع ميداني، فواجه منظومة دفاع هجينة تجمع بين الصمود الميداني والضرب في العمق. كانت معركة بنت جبيل ذروة هذا التحول، إذ صمدت المدينة رغم الحصار الكثيف، وتحوّلت إلى رمز لإفشال المناورة البرية. في الوقت نفسه، صعّدت المقاومة هجماتها الاستراتيجية، فقصفت "الكرياه" في تل أبيب، واستهدفت قواعد حيفا، وصولًا إلى الهجوم الأضخم في 24 تشرين الثاني، الذي استخدمت فيه الصواريخ الباليستية والمسيرات الانقضاضية ضد العمق الإسرائيلي، في رسالة مفادها أنّ التوغل البري سيقابله تصعيد استراتيجي غير مسبوق.
أدارت المقاومة وتيرة المعركة كما يُدار السلم الموسيقي؛ فكل مرحلة كانت تصعيدًا متقنًا يخدم هدفًا محددًا. في البداية امتصت الصدمة وفرضت ردعًا استراتيجيًا منضبطًا، ثم انتقلت إلى استنزاف القوات المهاجمة، وصولًا إلى مرحلة الحسم التي جمعت بين الدفاع الصلب والضغط الشامل في العمق. بهذه الإدارة المحكمة، حوّلت المقاومة الزمن إلى سلاح، وجعلت كل يوم إضافي في الحرب خسارة متراكمة للعدو الذي وجد نفسه مضطرًا إلى وقف القتال في 27 تشرين الثاني دون تحقيق أي من أهدافه.
يقف وراء هذا الأداء المتقن جهاز قيادة وسيطرة أثبت صلابته رغم فقدان رأس الهرم. فقد برزت اللامركزية في التنفيذ والمركزية في القرار كميزة أساسية، إذ امتلكت المجموعات الميدانية حرية الحركة والمبادرة ضمن رؤية استراتيجية واحدة. كما لعبت الاستخبارات دورًا حاسمًا، فكانت "العين التي تسبق العدو بخطوة"، سواء في كشف محاولات التوغل أو في توجيه النيران الدقيقة نحو الأهداف الحيوية داخل الكيان. هذه المنظومة المعلوماتية مكّنت المقاومة من إدارة المعركة بمنهج علمي متطور، وحوّلت الكمائن والضربات إلى عمليات محسوبة تخدم هدف السيطرة على الإيقاع العام للصراع.
أهم ما ميّز هذه الإدارة هو التحكم في سلم التصعيد. لم يكن رد المقاومة انفعاليًا، بل متدرجًا ومربوطًا بسلوك العدو. كل ضربة كانت تحمل رسالة سياسية واستراتيجية: "كلما تعمقتم برًا، تعمق قصفنا في عمقكم". بهذه المعادلة قلبت المقاومة مبدأ التفوق الإسرائيلي في المبادأة، وأجبرت الجيش على القتال وفق توقيت وشروط لا يختارها.
ومع نهاية المعركة، كانت النتيجة واضحة: فشل العدو في تحقيق أي اختراق ميداني حقيقي، وتكبد خسائر بشرية ومادية جسيمة، فيما خرجت المقاومة أكثر تنظيمًا وصلابةً وإدراكًا لفاعلية أدواتها. لقد أثبتت أنّ القوة في الحروب اللامتماثلة ليست في عدد الدبابات ولا في كثافة النيران، بل في مرونة الفكر وقدرة القيادة على تحويل الضعف الظاهري إلى عنصر تفوق.
لقد مثّلت معركة "أولي البأس" انتقال المقاومة من طور الدفاع الاستراتيجي إلى مستوى جديد من الاحتراف العسكري، حيث تمازجت الخبرة الميدانية بالوعي السياسي والإدارة المحسوبة للنار والزمن. إنها معركة احتواء الهجوم بامتياز، إذ حوّلت محاولة الاجتياح إلى عبء استنزاف، وحولت الحرب نفسها إلى درس في فن إدارة الصراع المعاصر، حيث يُهزم العدو قبل أن ينهار ميدانيًا، وتُصاغ المعادلات الجديدة بصلابة القرار ودقة التوقيت أكثر مما تُصاغ بقوة السلاح.
الكاتب: غرفة التحرير