الثلاثاء 07 تشرين أول , 2025 03:44

القدس والبندقية: سيرة محور يتكوّن من جنوب لبنان إلى غزة

القدس وعلم حزب الله

حين يُذكر اسم "القدس" في الخطاب العربي المقاوم، لا تُذكر كمدينة فحسب، بل كاختبار أخلاقي للعالم بأسره. فالقدس، في وعي الشعوب، هي المرآة التي تنعكس فيها كل التناقضات بين القيم المعلنة والحقائق الممارسة، بين خطاب الغرب حول "الحرية والديمقراطية" وبين تحالفه البنيوي مع مشروع استيطاني استعماري عمره أكثر من سبعين عامًا. من هنا، كان دعم حزب الله للقضية الفلسطينية ليس خيارًا سياسيًا، بل خيارًا وجوديًا وأخلاقيًا، خرج من رحم تلك المفارقة التي جعلت من العدوان "الإسرائيلي" معيارًا لشرعية الغرب الحديث، لا استثناءً منه.

لقد تشكّل هذا الدعم ضمن أربعة عقود، لا كتحالف عابر بين تنظيمين، بل كسيرة تحوّل في طبيعة المقاومة نفسها، من حدود محلية إلى فضاء إقليمي متكامل. فحزب الله، منذ ولادته في أوائل الثمانينيات، لم يرَ في فلسطين قضية "أخرى"، بل رأى فيها استمرارًا لذات الاحتلال الذي مزّق لبنان، وقتل أبناء الجنوب، وحوّل المنطقة إلى معمل لتجارب القوة الأميركية و"الإسرائيلية" المشتركة.

من العقيدة إلى الفعل: تأسيس المعنى المقاوم (1980 – 2000)

في مرحلة التأسيس، لم يكن حزب الله بعدُ يملك سلاحًا متطورًا أو قدرة ميدانية كبرى، لكنه امتلك ما هو أهم: الرؤية. وهي رؤية ترى أن الصراع مع "إسرائيل" ليس حول حدود أو موارد، بل حول تعريف الحق ذاته. هذا ما جعل القدس في خطابه ليست جغرافيا مقدسة فحسب، بل مركزًا للمعنى، وميدانًا للصراع مع مشروع استعماري يريد إعادة صياغة وعي الشرق الأوسط بأكمله.

عقيدة الحزب منذ بداياته لم تُصَغ بلغة قومية تقليدية، بل بلغة أممية جديدة تعيد تعريف التضامن كواجب ديني وأخلاقي، لا كشعار سياسي. فالمقاومة هنا لم تكن مجرد ردّ على عدوان 1982، بل استئناف لتاريخ طويل من رفض الاستعباد. لذلك حين تحقق التحرير عام 2000، لم يكن نصرًا لبنانيًا فحسب، بل إعلانًا أن الاحتلال يمكن أن يُهزم — وأن السلاح يمكن أن يكون أداة تحرير لا مجرد وسيلة قمع.

ذلك الانتصار شكّل لحظة كسر في الوعي الجمعي العربي. ومن لبنان، نظر الفلسطينيون إلى الجنوب ورأوا للمرة الأولى منذ عقود أن الهزيمة ليست قدرًا. كانت تلك بداية الربط بين "القدس" و"البندقية"، بين الرمزية الدينية والقدرة العملية. ومن تلك اللحظة، بدأت السيرة التي ستجعل من حزب الله نموذجًا يُحتذى في غزة لاحقًا.

تصدير النموذج: من التحرير إلى التمكين (2000 – 2006)

بعد التحرير، دخل الحزب مرحلة جديدة: نقل التجربة لا حفظها. فكما كانت الثورة الإيرانية منبع إلهام للمقاومين في لبنان، أصبح النصر اللبناني بدوره مصدرَ وعي ودرسًا عمليًا لغزة. ومن هنا بدأت عملية تبادل الخبرات، ليس فقط في الميدان العسكري، بل في بناء ثقافة المقاومة نفسها — ثقافة تمزج الإيمان بالتحليل، والشجاعة بالتنظيم، والرمز بالاستراتيجية.

من خلال الدعم اللوجستي، والتنسيق عبر القنوات الإيرانية والسورية، وُلدت في غزة تجربة جديدة للمقاومة. لم تعد المقاومة الفلسطينية محصورة في الحجر أو العمليات الفردية، بل تحوّلت تدريجيًا إلى مقاومة منظّمة تمتلك عقلًا عسكريًا وقدرة تصنيع محلي. ومن المفارقة أن هذا التطور لم يكن ممكنًا دون "الهامش" اللبناني الذي فتح الطريق نحو استقلالية المقاومة الفلسطينية عن الابتزاز الإقليمي.

في هذه المرحلة، كانت العلاقة بين حزب الله والفصائل الفلسطينية تمرّ بتحوّل نوعي: من الإسناد المعنوي إلى بناء القدرات، من التضامن إلى الشراكة في مشروع واحد. لقد أصبح جنوب لبنان ليس فقط ساحة تحرر، بل مدرسة عسكرية وروحية لغزة المحاصرة. ومن هنا بدأت ملامح ما سيسمّيه السيد حسن نصر الله لاحقًا بـ"وحدة الساحات" تتكوّن في العمق.

هندسة الردع: من الدفاع إلى بناء معادلة إقليمية (2006 – 2023)

بعد حرب تموز 2006، لم يعد بإمكان أحد أن يتحدث عن مقاومة لبنانية فقط. فنتائج الحرب غيّرت جوهر المعادلة: للمرة الأولى منذ قيام الكيان الإسرائيلي، عجزت تل أبيب عن فرض إرادتها على طرف عربي رغم تفوقها العسكري والتقني الساحق.

هذه الحرب لم تكن مجرد مواجهة تكتيكية، بل كانت تأسيسًا لعقيدة جديدة في الردع. ومن هنا، جاء المفهوم الأهم الذي أعاد صياغة علاقة غزة بلبنان: "وحدة الساحات". لقد أدرك حزب الله أن أي عدوان شامل على غزة هو مقدمة لاستكمال مشروع السيطرة على المنطقة بأكملها، وأن الدفاع عن الجنوب يبدأ من غزة كما يبدأ من مزارع شبعا.

ما فعله حزب الله في هذه المرحلة هو تقويض "احتكار العنف المشروع" الذي تتغنى به الدولة الحديثة، ولكن على المستوى الدولي. ف"إسرائيل"، بدعم أميركي مطلق، كانت تعتبر نفسها صاحبة الحق في استخدام القوة بلا مساءلة. فجاءت المقاومة لتفرض معادلة أخلاقية معكوسة: أن العدوان نفسه أصبح مكلفًا، وأن الهيمنة لم تعد مجانية.

الردع هنا لم يكن مجرد توازن عسكري، بل توازن في الوعي؛ حين تعلم "إسرائيل" أن أي حرب على غزة قد تفتح عليها جبهة لبنان، فهي تخوض حسابًا جديدًا مع الزمن والمكان، مع ما بعد حرب تموز. هكذا تحوّلت المقاومة من كيان دفاعي إلى كيان مؤسس لمنظومة أمنية مضادة، جعلت من غزة جزءًا من خريطة الردع الإقليمي، لا مجرد ضحية دائمة للعدوان.

جبهة الإسناد: حين أصبحت غزة جزءًا من الجنوب (2023 – الاستشهاد)

حين اندلعت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، انكشفت كل خطوط التقاطع بين النظري والعملي، بين العقيدة والميدان. للمرة الأولى، أعلن حزب الله صراحة أنه دخل الحرب لا من باب "التضامن" بل من باب "الإسناد". فتحت الجبهة الشمالية بكامل طاقتها — قصف يومي، عمليات نوعية، اختراقات تكنولوجية — والهدف واضح: تفكيك الضغط عن غزة واستنزاف قدرات "الجيش الإسرائيلي".

في هذه اللحظة التاريخية، تجسدت وحدة الساحات كحقيقة لا كشعار. لقد تحوّل الردع إلى مشاركة، والمساندة إلى اشتباك مباشر. ولأن كل فعل تحرري يدفع ثمنه الأغلى، ختم الحزب هذه المرحلة باستشهاد أمينه العام السيد حسن نصر الله، الذي أصبح في الوعي العربي "شهيد غزة"، لا بمعنى الجغرافيا بل بمعنى الرمز. فقد كانت الشهادة ذروة تلاقي المسارين: طريق القدس وطريق الجنوب.

إن استشهاد نصر الله لم يُنهِ المسار، بل ثبّته كحقيقة وجودية في معادلة الصراع. فالموت هنا ليس خاتمة، بل تأكيد على أن فكرة المقاومة تجاوزت الأفراد لتصبح منظومة ثقافية وسياسية تمتلك مناعة ذاتية ضد الانكسار. يمكن القول إن "القوة الأخلاقية للمقاومة" أصبحت توازنها الموضوعي في الشرق الأوسط الجديد.

من "لبنان الصغير" إلى "محور الأمة"

عند النظر إلى هذه المسيرة الطويلة، يمكن القول إن حزب الله لم يكتفِ بدعم فلسطين، بل ساهم في إعادة تعريفها كقضية مركزية للعالم لا للعرب فقط. لقد ساهم في نقل الخطاب من نطاق العاطفة إلى ساحة الفعل، ومن منطق المظلومية إلى منطق الفاعلية.

فـ"القدس والبندقية" لم تعودا رمزًا دينيًا أو نضاليًا فحسب، بل معادلة تاريخية تعني أن تحرير الإنسان لا يتحقق إلا بتحطيم البنية التي تصنع الهيمنة — تلك التي تبدأ بالاستعمار وتنتهي بالتطبيع.

ومن جنوب لبنان إلى غزة، تمت كتابة فصول جديدة من هذا الوعي المقاوم، الذي يقول للعالم إن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وإن السلاح حين يُرفع باسم القدس يصبح أداة للعدالة، لا للدمار.

إنها سيرة محور لا تدّعي الكمال، لكنها أثبتت أن فكرة المقاومة ما زالت حية، وأن الشعوب حين تتوحد حول معنى، يمكنها أن تخلق معادلات تردع أقوى الجيوش وتربك أكثر الإمبراطوريات استقرارًا.

فمن هنا، من الجنوب إلى غزة، ومن البندقية إلى القدس، وُلدت تجربة تقول للعالم: لا تزال الأمة قادرة على أن تكتب تاريخها بيديها — وببندقيتها.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور