منذ أربعة عقود تتقاطع النظرة الإسرائيلية إلى حزب الله بين الإدراك المتأخر والإنكار المتكرر. فالمؤسسة الأمنية والسياسية في تل أبيب وجدت نفسها، منذ اجتياح 1982، أمام خصم لم ينسجم مع أي من النماذج الكلاسيكية للحرب أو المقاومة؛ خصم يتجدّد كلما اعتقدت أنها أحكمت الطوق عليه. ومع كل مواجهة، كانت إسرائيل تُراجع ليس فقط تكتيكاتها، بل أيضاً مفاهيمها المؤسسة للأمن والردع والحسم. هكذا تحوّل حزب الله من "إزعاج محلي" إلى "تهديد استراتيجي مركزي"، ومن ظاهرة هامشية في جنوب لبنان إلى عقدة أمنية تُعيد تعريف مفهوم النصر الإسرائيلي ذاته. هذه الدراسة المرفقة في أدنى الخاتمة تحاول تفكيك هذا التحوّل، وتبحث في كيفيّة تغيّر تصوّر إسرائيل لخصمها من مجرّد تنظيم مقاوم إلى كيان هجين فرض على منظومتها الأمنية إعادة هندسة بنيتها الفكرية والعملياتية.
يحاجج المقال أنّ فهم تحوّل نظرة المؤسسة السياسية-الأمنية الإسرائيلية إلى حزب الله لا يمكن أن يُستخلص من سرد تاريخي للأحداث فقط، بل يتطلب تفكيكاً للمفاهيم الحاكمة التي تُعيد تشكيل صورة الخصم. منذ العام 1982 إلى 2025 مرّت هذه النظرة بسلسلة عتبات معرفيّة: من تقليل الخطر واعتباره مشكلة تكتيكية، إلى إدراك حزب الله كبنية مقاومة قابلة للتجدد، ثم إلى توصيفه تهديدًا مركزيًا يُعيد تعريف معيار الأمن الإسرائيلي نفسه. التجربة القتالية، الاستخبارات، الضغوط الإقليمية، ووعي الجمهور اجتمعت لتبدّل افتراضات العمل العسكري الإسرائيلية - من "حرب قصيرة حاسمة" إلى "اشتباك طويل مُدار"، ومن النقل المباشر للقتال إلى العمق إلى إدارة مخاطر مستمرة تُعتمد فيها أدوات القضم والضبط.
خاتمة جامعة: لماذا يبقى حزب الله التهديد المركزي؟
تُظهر القراءة المفاهيميّة لمسار 1982 – ما بعد 2024 أنّ إسرائيل انتقلت في نظرتها إلى حزب الله عبر عدة عتباتٍ كبرى:
عتبة الاعتراف البنيوي خلال سنة من تأسيسه: من غفلة وجهل استخباري مغذّى بتفوّقٍ مضلِّل... إلى فهم أنّ الحزب بنية مقاومة لا ظاهرة عابرة.
عتبة انتقال حزب الله، في الوعي الإسرائيلي، من "مشكلة تكتيكية" إلى معضلة بنيوية تُنتج ردعًا عملياتيًّا وتفرض تسعيرًا اجتماعيًا – سياسيًا لقرار الحرب؛ اكتملت هذه العتبة رمزيًّا وعمليًّا بالانسحاب عام 2000.
عتبة الزلزال المفاهيمي (2000 – 2006): انسحاب بلا اتفاق ثم حرب سَحقت فرضيّة الحسم السريع، وأدخلت الجبهة الداخليّة معيارًا حاكمًا في القرار.
عتبة الإدارة المكثّفة (2006 – 2023): ردع متبادل وفر الأمن الإستراتيجي للبنان في مرحلة تاريخية مشبعة بالمخاطر... وشكلت مظلة لتعاظم قدرات المقاومة... وتعاظم التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
عتبة (ما بعد 2024): استبدال الحسم بإدارة مخاطر يُدار عمليًّا عبر قضمٍ مستمر وتدويلٍ للضبط وبناء شرعية تُطيل زمن الاستمرار.
على هذا الأساس، يتكرّس حزب الله في العقل الإسرائيلي تهديدًا مركزيًّا، لا لأنّ إسرائيل ضعيفة، بل لأنّ شكل القوّة المطلوب لإلغائه غير متاحٍ بكلفةٍ مقبولة؛ ولأنّ مفاتيح تهديده (الدقّة، الكمّ، المسيّرات، الشبكيّة الدفاعيّة، مرونة التعافي) لم تُنتزع. وهكذا يصبح الردع ظرفيًّا: قائمًا ما دامت كُلف كسره أعلى من عوائده، وقابلًا للانكسار حين يرى الحزب نافذةً مواتية. وتصبح عقيدة الإدارة – لا الحسم – استراتيجية بديلة من موقع الاضطرار.
أما الرهانات البديلة داخل لبنان – السياسة، الاقتصاد، الضغوط المؤسّسيّة – فلا تُظهِر، في المنظور الإسرائيلي الواقعي، قدرةً على نزع المفاتيح. أقصى ما تقدّمه هو ضغطٌ متقطّع قد يقيّد وتيرة التعاظم، دون أن يبدّل جوهر المعادلة. لذلك تبقى الخلاصة مزدوجة:
مفاهيميًّا: حزب الله بدّل تعريف القوّة في الأمن الإسرائيلي من "وعد بالحسم" إلى "وظيفة حراسة" (لأمن مستوطنات الشمال وإشعارهم بالأمن)، ومن أمل بـ "ردعٍ تام" إلى "ردعٍ يُصان بالعمل اليوميّ".
عمليًّا: إسرائيل تُدير خطرًا لا تُنهيه، والحزب يُحافظ على مفاتيح تهديدٍ تضمن بقاءه في مرتبة "العدوّ الأوّل".
إنّ الاستمراريّة هنا ليست عجزًا فحسب، بل اعترافٌ معرفي بأنّ صراعًا كهذا لا يُحسم بمنطق "الضربة القاضية"، بل يُدار بمنطق "ميزانيّات الزمن والكلفة". ومن ثمّ، فإنّ كلّ حديثٍ عن نهاياتٍ قريبة يتجاهل حقيقةً رسّختها أربعة عقود: أنّ حزب الله لم يعد "مقاومة تواجهها إسرائيل" وحسب، بل مقاومة تُعيد من خلاله تعريف نفسها: عقيدةً، ومجتمعًا، وحدودَ قوّةٍ ومعنى أمن.
ولهذا كلّه، وبحسب "المفهوم العامل" بعد 2024، يبقى حزب الله التهديد المركزي، ويظلّ الردع ظرفيًّا، وتبقى مخاطر مسار التعافي لدى الحزب حاضرةً في تقديرات تل أبيب، فيما تفشل الرهانات البديلة – حتى الآن – في تحويل الداخل اللبناني إلى أداةٍ تفكيكيّةٍ لمفاتيح التهديد. إنّها خلاصةٌ لا تُطمئن إسرائيل، لكنها تُطابق واقعًا موضوعيًّا: من وعد الحسم إلى وظيفة الحراسة. ومن أُحاديّة التعريف إلى تعدّد المفاهيم. أي أن إسرائيل لم تعد تُعرّف أمنها ونجاحها بمعيارٍ واحد نهائي (الحسم أو الردع أو التفوق...)، بل صارت تُدير الصراع بمنطق حافظة مفاهيم: تقييد التهديد، صيانة ردعٍ ظرفي، قضم وقائي، حماية الجبهة الداخلية، وتدويل الضبط، وكلّها تؤكد أن المسألة هي سياسة إدارة مخاطر كبديل – حتى الآن – عن فشل إستراتيجية الحسم.
لتحميل الدراسة من هنا
الكاتب: الأستاذ علي حيدر