في كل خطاب سياسي "إسرائيلي"، لا تنفك النخب الحاكمة عن تكرار اللازمة الأمنية: "نحن الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تدافع عن مواطنيها، جيش الدفاع لحماية الديمقراطية، القبة الحديدية رمز الردع، والتفوق التكنولوجي ضمان البقاء". لكن، كم يلزم من صاروخ واحد، دقيق التوجيه، ليكشف أن كل تلك الخطابات ليست أكثر من ديباجات أيديولوجية مفرغة؟
الهجوم الإيراني الأخير على العمق "الإسرائيلي" لم يكن مجرد رد عسكري، بل مرآة عاكسة لهشاشة الدولة من الداخل. لم يكن سؤال السكان: لماذا لم نرد؟ بل أين نحتمي؟ وهذا سؤال وجودي في سياق يُفترض فيه أن تكون الدولة هي الضامن الأول للبقاء.
الهندسة الأخلاقية للتمييز: من سياسات الأرض إلى سياسات المأوى
حين سقط صاروخ على مدينة طمرة، لم يكن الحدث عسكريًا فحسب، بل سياسيًا – لا بل أخلاقيًا بامتياز. لأن المفارقة الجارحة أن ضحايا الصاروخ لم يكونوا فقط خارج منظومة الحماية، بل خارج الاعتراف بوجودهم كـ"مواطنين مستحقين للأمان".
ما الذي يجعل دولة تُنفق مليارات الدولارات على منظومات دفاعية متطورة مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود"، تترك بلدات كاملة – خاصة العربية منها – دون ملاجئ، دون غرف محصنة، دون أدنى حد من مقومات الحماية؟ الجواب ليس في المال، بل في البنية التميزية.
إننا أمام ما يمكن تسميته بـ"الأبارتهايد الوقائي": حيث لا يُقاس أمن الفرد بناء على تهديد خارجي مشترك، بل بناء على تصنيفه داخل تراتبية قومية – إثنية – طبقية.
النيوليبرالية الأمنية: الأمن كسوق لا كحق
منذ التسعينيات، حين بدأت "إسرائيل" بتطبيق معايير الحماية في البناء (ما بعد حرب الخليج)، بدا واضحًا أن الأمن – الذي يُفترض أن يكون أحد أسس العقد الاجتماعي – قد تحول إلى منتج يُشترى. الشركات الخاصة، شركات البناء، سلطات محلية غنية – كل هذه أصبحت فاعلين أساسيين في "سوق الأمان"، بينما تُترك البلدات المهمشة، وخاصة العربية، خارج الحسبة تمامًا.
إن الدولة التي تملك السلاح النووي، وتنفذ اغتيالات في خمس قارات، وتعترض طائرات في الجو، وتعالج بيانات استخبارية معقدة عبر الذكاء الاصطناعي، تقف عاجزة – بل غير مبالية – أمام بناء ملجأ عام في مدينة مثل باقة الغربية. لماذا؟ لأن "المردود الأمني – السياسي" غير مُجزٍ، وفق الحسابات الباردة للدولة.
التهديدات الوجودية لا تأتي دائمًا من الخارج
ما كشفه الهجوم الإيراني هو أن الخطر على حياة السكان لا يأتي فقط من العدو، بل من تواطؤ السلطة مع التقصير، من تسييس الحماية، من هندسة الجغرافيا لخدمة طبقات معينة، وترك البقية للهامش – وللموت.
إن مشهد السكان العرب وهم يفرون إلى سياراتهم، أو يحفرون خنادق بدائية في القرى غير المعترف بها، ليس مجرد مأساة، بل اتهام صريح للنظام بأكمله. فكل حديث عن "جيش الشعب" أو "المساواة أمام التهديد" يتهاوى تحت وقع السؤال: من له الحق بالحياة ومن لا؟
وليس العرب وحدهم، بل حتى اليهود الفقراء في أطراف تل أبيب، في بلدات التطوير، في النقب والمستوطنات القريبة من غزة – جميعهم يتقاسمون حقيقة واحدة: ليس لهم مكان في الملجأ.
فلسطينيو الداخل… بين القصف والخذلان
التمييز ضد فلسطينيي 48 ليس جديدًا، لكن ما يحصل في سياق الأمن هو الترجمة الأكثر قسوة له. فالتمييز هنا لا يتعلق بالأجور أو التعليم أو الأراضي فقط، بل بـ"الحق في النجاة".
حين يُطلب من سكان طمرة، أو باقة، أو رهط، أن يختبئوا في "الغرف الآمنة"، يتضح أن لا غرف، ولا أمان. ويتضح أكثر أن هذا الطلب لم يكن سوى واجبًا بيروقراطيًا لتبرئة ذمة الدولة، لا نيةً لحماية أحد.
بلغة الأرقام: لا توجد ملاجئ عامة في أي بلدة عربية تقريبًا، أكثر من نصف الشقق السكنية تفتقر لغرف محصنة، والموازنات الأمنية لا تصل أبدًا إلى هذه المناطق. فهل يحتاج الأمر إلى المزيد من الأدلة لنتحدث عن "نظام تمييز منظم"؟
الإخفاق في طمرة: حادث عرضي أم نموذج كاشف؟
في طمرة، قُتلت أُم وثلاث من بناتها، وتضرر مسجد، ومئات المنازل. لكن ما هو لافت ليس فقط الحدث، بل رد الفعل الرسمي البارد. بيانات رسمية مقتضبة، زيارات بروتوكولية، وصمت حكومي شبه تام.
وبينما تُرفع دعوات التحقيق والإنقاذ والتعويض من القيادات العربية، تستمر الدولة في إنكار أي مسؤولية، بل وتتهم السكان بالتقصير، أو بعدم الالتزام بتعليمات الجبهة الداخلية، وكأن من لا يملك ملجأ هو المسؤول عن موته.
هنا يكمن جوهر الإشكال: دولة تتنصّل من التزاماتها في اللحظة التي يُفترض فيها أن تكون حامية، ومجتمع يُطالب فقط بحق البقاء، لا الامتيازات.
النقب… حيث تتقاطع الجغرافيا بالعنصرية
ما حدث في النقب لا يُوصف إلا بأنه وصمة عار في سجل الكيان الغاصب. عشرات القرى، معظمها غير معترف بها، دون مياه، دون كهرباء، دون مدارس، ودون ملاجئ. حين تسقط الصواريخ، يحتمي الناس تحت الجسور أو في حاويات، أو يفرون للعراء.
وهنا يتجلى جوهر "الدولة الصهيونية" في أكثر صوره تجريدًا: الأرض أكثر أهمية من الإنسان، والتخطيط ليس أداة تنمية، بل وسيلة للسيطرة والتهميش. فحين يُطلب من الناس أن "يعيشوا" خارج الاعتراف، فلا عجب أنهم يموتون خارج الحماية.
الإعلام الصامت… والتواطؤ الليبرالي
مفارقة أخرى لا تقل أهمية: "الإعلام الإسرائيلي"، بكل منابره، بالكاد خصص دقائق معدودة للحدث في طمرة أو معاناة النقب. وإذا فعل، فقد فعل من زاوية "القصص الإنسانية" لا من زاوية "السياسة البنيوية". وهذا ليس صدفة.
لأن الإعلام، خاصة الليبرالي، يعرف أن الحديث عن غياب الملاجئ يقود بالضرورة إلى الحديث عن غياب المساواة، ثم إلى فضح التمييز، ثم إلى زعزعة الرواية الصهيونية ذاتها. لذلك، يفضّل الصمت.
نحو معادلة أخلاقية جديدة
إن معادلة الأمن في "إسرائيل" اليوم تشبه طائرة بدون طيار فقدت السيطرة: عالية التقنية، لكنها عمياء أخلاقيًا.
فالصواريخ التي تسقط على بلدات بلا ملاجئ ليست مجرد قنابل، بل رسائل صارخة تقول: الدولة التي لا تحمي كل سكانها ليست فقط فاشلة سياسيًا، بل ساقطة أخلاقيًا.
وفي هذا السياق، فإن إعادة تعريف الأمن يجب أن تبدأ من الداخل، من إعادة الاعتراف بمن هم في الهامش، لا بوصفهم "قنابل ديموغرافية"، بل بشراً، مواطنين، ضحايا نظام يتقن الحرب وينسى الحياة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com