في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة في لبنان، وانسداد الأفق السياسي، وتراكم الأزمات المتلاحقة في معظم القطاعات، وعلى ضوء تعثّر المفاوضات مع صندوق النقد، من خلال التخبّط الحاصل في ملف تقدير حجم الخسائر بين الحكومة والمصرف المركزي وجمعية المصارف، والتأخر في إجراء الإصلاحات المالية والادارية المطلوبة، وفي ظل العقوبات المفروضة على لبنان وقطاعاته المختلفة، وليس خفيًا على أحد، أن صندوق النقدالدولي قد توقف عن تقديم اية قروض للبنان، لا سيما في ظل الانقسام السياسي الحاصل، وعحز الدولة عن تقديم بيانات مالية شفافة وغياب الاصلاحات، واستشراء حالة الإهتراء والترّدي، التي تضرب معظم مؤسسات وادارات الدولة.
وقد وصل الواقع المعيشي الى مستويات متدنية تلامس شفير الانهيار، حيث نشهد انهيارًا في القطاع المصرفي، وضياعًا لأموال المودعين، وانهيارًا للعملة الوطنية، وارتفاع كلفة المعيشة، وتدني القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني، الذي بات يرزح تحت أعباء كثيرة، جراء سياسات خاطئة وعقوبات تفرضها دول اقليمية وكبرى ضد لبنان.
من هنا تنشأ أهمية دراسة تنويع الخيارات الاقتصادية في علاقات لبنان الخارجية، وكان خيار "التوجّه شرقا" كأحد الطروحات، التي تقول ان على لبنان أن ينوّع في علاقاته الاقتصادية، فلا تقتصر على خيار العلاقة مع الدول الغربية، بينما المجال مُتاح للتوجه نحو الدول الشرقية، في مسعى لانقاذ لبنان من حال التعسّر الخطير الذي يعاني منه اقتصاده الوطني.
بدأت العلاقات اللبنانية – الصينية في العام 1955، حيث تم توقيع أول اتفاقية تجارية بين لبنان والصين، وقد شهدت العلاقات التجارية بين لبنان والصين تطوراً كبيراً، فأصبحت الصين أكبر شريك تجاري للبنان، إذ بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى لبنان عام 2018 نحو 2 مليار دولار (أي ما يمثل نحو 10 % من إجمالي الواردات)، بينما بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى الصين حوالي 464 مليون دولار (11.5 % من إجمالي الصادرات).
ضمن هذا الإطار، تنظر الصين إلى لبنان كشريك مهم في مبادرة «الحزام والطريق»، والتي تقوم على مبادئ التطوير التعاوني للبرنامج من خلال الإستشارات والتشاور مع جميع أصحاب المصلحة، وبحسب النصوص المشتركة لاتفاقيات التعاون الصيني - اللبناني، "سوف تُستخدم آليات التعاون الثنائية والمتعددة الأطراف القائمة، لتعزيز التكامل بين الاستراتيجيات الإنمائية للدول، كما سيتم إتخاذ تدابير وخطوات للتشجيع على توقيع مذكرات تفاهم وخطط تعاون بهدف إنشاء عدد من المشاريع الإنمائية الثنائية، وبذل الجهود لإنشاء آلية عمل مشتركة سليمة، ووضع خطة تنفيذ وخارطة عمل من أجل تطوير إستراتيجية الحزام والطريق، ومن المرتقب ليس فقط وضع لبنان على خريطة طريق الحرير، لا بل شق هذه الطريق عبر لبنان للإستفادة من موقعه الإستراتيجي".
بدءًا من العام ٢٠١٠ وعلى ضوء تطورات المنطقة الميدانية، وما سُمي في حينه بثورات "الربيع العربي"، ومع اندلاع الحرب في سورية في ٢٠١١ ومجريات الأحداث في كل من اليمن والعراق، كانت الصين، وهي صاحبة الوجود التاريخي المحدود في المنطقة، ولا تزال تترقب وتتابع مسارات الأحداث سياسيأا واقتصاديا، وقد حاولت الانفتاح على العديد من دول المنطقة في عزّ الأزمات، ولا ننسَ وقوفها الى جانب روسيا في مجلس الأمن، بوجه اي قرار يطال سيادة سوريا ووحدة اراضيها. والصين كانت ولا زالت مع الحقوق العربية، ولها مواقف مبدئية تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
وكانت الصين ولا تزال، تًبدي استعداداً للدخول الى لبنان، كجهة اقتصادية داعمة للقطاعات الاقتصادية، وكشريك اقتصادي داعم للبنان، وعليه وفي ظل اصطفافات المنطقة الحادة، لا بد من القول، أن الصين قد تعاطت بداية بحذر مع الدخول الى الساحة اللبنانية، آخذة بعين الاعتبار، ما قد يترتب على هذا الدخول من حساسية تجاه فرنسا واميركا، وخيارات لبنان المتناقضة اقتصاديًا وسياسيا.
في هذا السياق، وبحسب حديث طويل مع السفير الصيني السابق في لبنان ونغ كجيان، فان الشركات الصينية، كانت تحاول منذ عقد تقريباً، عرض وإطلاق مشاريع كبيرة في لبنان، وقد قدّمت هذه الشركات، عروضًا للسلطات اللبنانية المعنية، والشركات الصينية أبدت استعدادها بشكل خاص، للاستثمار في البنُى التحتية وفي قطاعات الكهرباء والماء والاتصالات والخدمات والانشاءات، وكان هناك تريث من قبل الجانب اللبناني!
إلا انه من خلال الواقع العملي، فان من المنتظر أن تشهد العلاقات الاقتصادية بين لبنان والصين، تطوراً مضطرداً على صعيد المبادلات والتعاون في شتى المجالات، لاسيما من خلال انفتاح التجار اللبنانيين على الصين، الذين يستفيدون من تنوع ورخص البضائع والسلع الصينية ومزاياها التفاضلية، وفي ظل تراجع العديد من الاسواق العالمية والاقليمية، حيث تشكل سوق الصين منذ ثلاثة عقود تقريبا، واحدة من اهم المصادر التجارية للمستورد اللبناني.
ومن مظاهر التعاون بين لبنان والصين، إنضمام لبنان في 26 حزيران/يونيو 2018 إلى البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية (AIIB) بعد موافقة مجلس محافظي البنك على الطلب الذي كان مقدماً له، وكشف البنك أن عضوية لبنان الرسمية ستبدأ بعد استكماله الإجراءات المطلوبة، ودفعه أول جزء من رأس المال إلى المصرف.وإن إنضمام لبنان إلى هذا البنك، الذي سيكون للصين فيه أكبر مساهمة بحصة تبلغ حوالي 50 %، سيسمح له بأن يستفيد من مصادر تمويل جديدة، نظراً للسيولة الكبيرة التي يتمتع بها، ولقدرته على تمويل مشاريع بنيوية هامة.
إلا انه مع الأسف توقفت مساهمة لبنان في حصته في المصرف، مما يضع امكانية استمرار مشاركته بالبنك موضع اختبار صعب! وقد تأسس البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية في تشرين الأول/أكتوبر 2014، حيث وقعت الصين مع 21 دولة أخرى على مذكرة تفاهم لتأسيس البنك.
وفي أيلول/سبتمبر 2018، تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة الجمهورية اللبنانية حول «الترويج المشترك للتعاون في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحرير البحرية للقرن الواحد والعشرين». وتنصّ المذكّرة على تعاون الجانبين في مجالات ذات اهتمام مشترك منها النقل واللوجستيات والبنى التحتية، والإستثمار والتجارة، والطاقة والطاقة المتجدّدة والتبادل الثقافي بين الشعوب، والصحة والرياضة، كما تمّ التوقيع على اتفاقيتين للمنطقة الاقتصاديّة الخاصّة في طرابلس مع غرفة التجارة الصينيّة ومنطقة نينشوان التكنولوجيّة.
وتجدر الإشارة إلى التواصل الدائم بين غرفة طرابلس ولبنان الشمالي والسفارة الصينية في لبنان، لجهة تعزيز الإمكانيات المشتركة المساعدة على إطلاق مشاريع إستثمارية كبرى.
وفي هذا السياق، من الضروري الإستمرار في البحث عن سُبل تعزيز وتطوير العلاقات الإقتصادية والإستثمارية بين لبنان والصين، وتعميق التعاون الإستراتيجي في شتى المجالات، ولا سيما تشجيع حركة الصادرات اللبنانية بإتجاه الأسواق الصينية، والمشاركة الحثيثة في مختلف المعارض التجارية الصينية التي تفتح الآفاق أمام مبادلات مفيدة للجانبين.
على مستوى علاقات الصين السياسية والدبلوماسية والثقافية بلبنان، تركز عمل السفارة الصينية في بيروت خلال السنوات الماضية، على تعزيز الروابط الثقافية مع لبنان، حيث شاركت الصين في أنشطة عامة وتبادل وفود، وافتُتحت معاهد لتعليم اللغة الصينية( معاهد كونفوشيوس) في اكثر من جامعة لبنانية.
ويسجّل للصين أنها ارسلت مساعدات عسكرية خلال عدوان تموز ٢٠٠٦، كما تسجّل مشاركتها في حفظ السلام على الحدود الجنوبية للبنان، اضافة لمشاركة الصين ودعمها بعض المشاريع التنموية في بعض مناطق لبنان، وفي بعض قرى الجنوب اللبناني تحديدا، كذلك مارست الصين "الديبلوماسية الناعمة" او ما عرف (بدبلوماسية اللقاحات) خلال أزمة كورونا، إذ زوّدت لبنان بمساعدات طبية، بما فيها معدات اختبار للفيروس، كما ان أطباء صينيين قدّموا المشورة لنظرائهم اللبنانيين على صعيد التعامل مع تفشي الفيروس.
من خلال الواقع اللبناني الصعب على كل المستويات نستنتج: أن لبنان بحاجة ماسة الى اي معونة او مساعدات اقتصادية عاجلة ومن اي جهة صديقة ، وتتعلق هذه المساعدات بالكهرباء او بالبُنى التحتية.
إن السلطات اللبنانية الرسمية، مدعوّة إلى استكشاف ما يمكن أن تقدّمه الصين من خدمات او ما تستطيع ان تنفذه الصين من مشاريع، تساعد لبنان على النهوض باقتصاده في كل القطاعات الاقتصادية، خاصة في ظل الواقع الراهن وازمات لبنان المتلاحقة والخانقة، وفي ظل العلاقات المعقدة مع بعض الدول الاقليمية.
بطبيعة الحال، لا بد من الاشارة او التنويه، الى ان اهتمام الصين بالشرق الأوسط يرتكز اساسا حول "مبادرة الحزام والطريق"، التي تهدف إلى توسيع النفوذ الصيني حول العالم عبر الروابط الاقتصادية.
بناء على كل ما تقدم: لا أرى مانعًا ان يستفيد لبنان من هذا العروضات الصينية، ذلك ان وضع لبنان على خارطة الحزام والطريق، قد تفيده على المديين المتوسط والبعيد، وقد تربطه بموانىء وطرق المواصلات الاقليمية والعالمية، وبما يفيد وينعكس حتما على قطاعاته وشبكات مواصلاته وبناه التحتية.
برأيي انه في حال التوصل الى تفاهمات مع الصين او مع اي دولة ترغب بمساعدة لبنان، فاننا حتمًا سنستفيد فيما تملكه هذه الدول العظمى من امكانات ضخمة في المجالات كافة، بما يؤمّن مساعدة لبنان ودعمه في سبيل اعادة بناء وتطوير مؤسساته وبُناه وقطاعاته الحيوية.
أضيف الى ما تقدم انه، وبحسب الدراسات وتصريحات المسؤولين الصينيين بشأن افكار وخطط عملهم في لبنان، تريد الصين إعادة إحياء خطوط الطرق وسكك الحديد المهترئة منذ فترة طويلة، والممتدة بين بيروت وطرابلس على طول ساحل لبنان المتوسطي، وذلك وصولاً إلى مدينتي دمشق وحمص السوريتيْن، وما بعدهما، وذلك كجزء من من شبكة بنية تحتية أوسع تسيطر او تشرف (الصين) عليها عبر أوراسيا".
لا بد من القول أخيرًا أن: هناك تشكيك في إمكانية تقبّل فريق كبير من اللبنانيين لفكرة الانفتاح الاقتصادي على الصين وإبرام تفاهمات اقتصادية معها، وهم يعتبرون ان الانفتاح على الصين بلا جدوى فعلية، ويبررون اعتراضهم بعدم قابلية ان تتحقق هذه الاهداف على الواقع العملي لاسيما ضعف وتراجع لبنان ودوره كنقطة جذب في ظل بروز مناطق اخرى كدبيّ وغيرها من مطارات ومرافىء دول المنطقة.
ويرى هؤلاء أن للصين أهدافًا سياسية خلف مشروعها المزمع تنفيذه في لبنان، لا بل يرى هؤلاء المعترضون على خيار الانفتاح على الصين في عملية اعادة بناء الاقتصاد اللبناني، ان هذا التوجه، قد يؤثر على مصالحهم وخياراتهم السياسية القديمة، المرتبطة بالغرب وبسياساته الى حد كبير.
الكاتب: د. نبيل سرور