الخميس 21 آب , 2025 04:25

عملية خان يونس رسالة استراتيجية قبل سقوط وهم "عربات جدعون 2"

عناصر من حركة حماس

في الحروب غير المتكافئة، حيث يقف طرف يمتلك أحدث التقنيات العسكرية والدعم السياسي الغربي غير المشروط في مواجهة شعب محاصر ومجرد من أبسط مقومات الحياة، تصبح أي عملية نوعية للمقاومة حدثا يتجاوز حدود الميدان. هذا ما جسدته عملية خان يونس الأخيرة التي نفذتها كتائب عز الدين القسام، والتي لا يمكن قراءتها بوصفها اشتباكا معزولا، بل باعتبارها رسالة استراتيجية موجهة مباشرة إلى المؤسسة العسكرية والسياسية "الإسرائيلية"، ورسالة غير مباشرة إلى المجتمع الدولي الذي يواصل تبني الرواية "الإسرائيلية" الرسمية.

الحدث بدا صاعقا في "إسرائيل"، ليس فقط لكونه جرى في منطقة عسكرية محصنة جنوب شرق خان يونس، بل لأنه كشف مجددا قدرة المقاومة على تجاوز منظومة الرصد والاستخبارات، وإدارة عملية معقدة بمستوى فصيل مشاة كامل، نفذ إغارة منسقة بالأسلحة المضادة للدروع والتحصينات، ووصل إلى قتال من المسافة صفر داخل بيوت كان يتحصن فيها جنود الاحتلال. هذه ليست فقط عملية، بل هي إعلان عن أن المقاومة لا تزال قادرة على المبادرة، رغم الحصار والدمار والحرب المفتوحة منذ عامين.

الرسالة الأولى: حدود القوة "الإسرائيلية"

منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة، سعى "قادة إسرائيل" إلى رسم صورة "للجيش" باعتباره قوة لا تقهر، قادرة على تفكيك حماس وإعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني. لكن عملية خان يونس جاءت لتعيد التذكير بحقيقة يعرفها كل مراقب موضوعي: أن "القوة العسكرية الإسرائيلية"، مهما بلغت من تطور، عاجزة عن تحقيق "النصر النهائي" في مواجهة مقاومة متجذرة في مجتمعها، ومصممة على القتال حتى النهاية.

هذا العجز ليس جديدا. فمنذ حرب لبنان 2006، اتضح أن الجيش "الإسرائيلي" يفقد تدريجيا قدرته على الحسم. في غزة اليوم، يتكرر المشهد ذاته: اجتياحات، قصف جوي، قتل جماعي للمدنيين، تهجير قسري، ومع ذلك تظل المقاومة قادرة على توجيه ضربات موجعة، لا تقلل فقط من صورة الردع "الإسرائيلي" بل تهدد بانهيارها.

الرسالة الثانية: المقاومة تعيد تعريف الميدان

العملية الأخيرة جسدت "الهجوم التكتيكي في إطار الدفاع الاستراتيجي". فالمقاومة لم تنتظر هجوم الاحتلال على مدينة غزة وفق خطة "عربات جدعون الثانية"، بل بادرت إلى تنفيذ عملية هجومية مركبة، أربكت الجيش وأجبرته على الرد تحت الضغط. في هذا المعنى، باتت المقاومة تملي إيقاع الميدان، وتختار اللحظة والهدف والوسيلة، وهو ما يعني أن "إسرائيل" تخوض حربا في بيئة فقدت السيطرة عليها.

الأخطر أن العملية كشفت عن مستوى عالٍ من التنظيم والمرونة. فمقاتلو القسام لم يكتفوا بالهجوم على الدبابات والآليات، بل أداروا اشتباكات متزامنة، ونفذوا عمليات قنص، واستخدموا أسلحة متوسطة وخفيفة من مسافة قريبة. حتى عنصر "الاستشهادي" الذي فجر نفسه في قوة الإنقاذ "الإسرائيلية" يعكس مزيجا من التخطيط والانضباط العقائدي الذي لا تستطيع "إسرائيل" كسره بالقصف أو التهجير.

الرسالة الثالثة: فشل "عربات جدعون" قبل أن تبدأ

حين يسارع متحدث باسم جيش الاحتلال إلى "طمأنة" الشارع "الإسرائيلي" بعد ساعات من العملية، فهذا بحد ذاته اعتراف بالصدمة. فالجيش الذي يروج لسيطرته “شبه الكاملة” على غزة، يجد نفسه فجأة أمام هجوم منظم ينفذ من داخل الأنفاق ويضرب في عمق مواقع يفترض أنها مؤمنة. وهنا تبرز المفارقة: "إسرائيل" تحاول إقناع جمهورها بأن "عربات جدعون الثانية" ستكون مختلفة وأكثر حسما، بينما الوقائع الميدانية تقول إن أي اجتياح واسع سيكون أقرب إلى فخ دموي طويل الأمد.

ليس من قبيل الصدفة أن قادة عسكريين وسياسيين إسرائيليين ـ من باراك إلى لبيد ويعلون ـ حذروا من أن الخطة ليست سوى مصيدة موت". فعملية خان يونس لم تكن سوى نموذج مصغر لما ينتظر "جيش الاحتلال" إذا قرر اقتحام مدينة غزة المكتظة، حيث الأنفاق والكمائن وحرب الشوارع.

الرسالة الرابعة: "المجتمع الإسرائيلي" في مواجهة الحقيقة

ما بعد العملية، لم يعد ممكنا تجاهل الانقسام داخل "إسرائيل". فالعائلات التي تحتجز المقاومة أبناءها تضغط على الحكومة، وتخشى أن يؤدي أي اجتياح جديد إلى إعدام فرص التبادل. وفي الوقت نفسه، يكشف النقاش السياسي عن أزمة شرعية تتجاوز الحرب ذاتها: هل يمكن لحكومة نتنياهو ـ كاتس أن تبرر إرسال عشرات الآلاف من الجنود إلى مواجهة يعلم الجميع أنها خاسرة؟

عملية خان يونس أعادت إنتاج سؤال الشرعية هذا. فهي أثبتت أن "القوة المطلقة" لا تلغي المقاومة، وأن استدعاء 60 ألف جندي احتياط لا يضمن النصر، بل قد يفاقم المأزق. ومع كل عملية مشابهة، تتآكل الثقة الشعبية في الخطاب الرسمي، ويزداد الضغط الداخلي الذي قد يتحول في لحظة ما إلى عامل سياسي حاسم.

الرسالة الخامسة: البعد الدولي

لا يمكن فصل هذا كله عن السياق الدولي. فالغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، يواصل تقديم الدعم السياسي والعسكري غير المشروط "لإسرائيل"، مكررا الخطاب نفسه عن "حقها في الدفاع عن نفسها". لكن العملية الأخيرة تكشف بوضوح أن هذا الدعم لا يترجم إلى واقع ميداني، بل ربما يعمق مأزق "إسرائيل"، لأنها تفسر الغطاء الغربي بوهم القدرة على فرض الحسم العسكري.

إن عجز "الجيش" عن القضاء على المقاومة، رغم التفوق العسكري الساحق، يفضح زيف الرواية التي تسوقها "إسرائيل" وحلفاؤها: أن الحرب مجرد عملية أمنية لإنهاء "الإرهاب". في الحقيقة، ما يجري هو محاولة لكسر إرادة شعب بأكمله، وهي محاولة أثبتت الأحداث مرارا فشلها.

عملية خان يونس لم تكن فقط معركة تكتيكية. إنها إعلان استراتيجي يقول إن المقاومة لم تُستنزف رغم الحرب المفتوحة، وإنها قادرة على التكيف وتطوير تكتيكاتها، وإن أي محاولة لاجتياح مدينة غزة ستواجه مقاومة أعنف وأكثر تنظيما. الرسالة الأعمق هي أن "عربات جدعون الثانية" ليست سوى وهم جديد، وأن "إسرائيل"، بدعم من الغرب، تواصل السقوط في فخ القوة المفرطة، بينما الواقع يؤكد أن إرادة الشعوب لا تُهزم بالقصف والتهجير.

بهذا المعنى، تمثل عملية خان يونس نقطة تحول: ليس فقط في ميزان القوى العسكري، بل في الوعي الجمعي "الإسرائيلي" والدولي. لقد أظهرت حدود القوة، ورسخت معادلة الردع المتبادل، وأكدت أن غزة ليست مجرد مساحة محاصرة، بل مختبر يعري زيف الأساطير "الإسرائيلية"، ويفتح الباب أمام سقوط مشروع الهيمنة ذاته.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور