الإثنين 25 آب , 2025 04:03

رؤية الإمام موسى الصدر: وطنٌ سيد مقتدر جامع

السيد موسى الصدر ورؤيته لبناء وطن مقتدر

قدّم الإمام السيد موسى الصدر للوطن مشروعاً سياسياً كاملاً يصلح ليكون منهاجاً: سيادةٌ غير منقوصة، ودولة مقتدرة عادلة، ومجتمعٌ جامع يتخطّى الحواجز المصطنعة بين المواطنين. هذه الرؤية تصطدم اليوم بواقع ارتهان القرار الرسمي لمراكز نفوذ خارجية، أميركية وسعودية خصوصاً، وبعجز بنيوي في مؤسسات الدولة عن تمثيل مواطنيها تمثيلاً عادلاً ومتوازناً. السيادة في قاموس السيد الصدر كانت مزيجاً من استقلال القرار، والاقتصاد المنتج، والعدالة الاجتماعية التي تُخمِد محرّكات الفتنة، وسياسة دفاعية تحمي البلاد من العدوان. بهذا المعنى، كانت فكرة "الوطن المقتدر" لا تعني التأسيس لدولة بوليسية، بل دولة أخلاقية قوية: تقوى بعدالتها، وتُهاب بتماسك مجتمعها، وتُصان بشراكة جيشها ومقاومتها في حماية السيادة والكرامة.

لم يكن الإمام موسى الصدر مجرد داعم لخيار المقاومة، بل كان المبادر الأول إليه وصاحب الطلقة الأولى في مسيرة العمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي. فقد نظر إلى "إسرائيل" باعتبارها "شراً مطلقاً" لا يمكن التعايش معه أو الاعتراف به، بل يجب مقاومته حتى دحره. في الوقت الذي رفض فيه الاقتتال الداخلي ووقف سدًّا منيعاً بوجه أي فتنة بين أبناء الوطن، حتى إنه اعتصم في مسجد العاملية في بيروت رافضاً إراقة الدم اللبناني بأيدي لبنانية، كان يعتبر أنّ العدو الوحيد والحقيقي للبنانيين هو "إسرائيل". بهذا التمييز الواضح بين الداخل والخارج، رسم السيد الصدر خطاً استراتيجياً لحركة المقاومة يقوم على تحصين الوحدة الوطنية في مواجهة محاولات التفتيت، والتفرغ لمجابهة العدو الإسرائيلي الذي يستهدف الداخل اللبناني أرضاً وشعباً ومصيراً.

العدالة الاجتماعية أساس الوحدة الوطنية

انطلق الإمام من بديهة بسيطة وعميقة: "ليس للظلم طائفة" رأى أن الحرمان مركّب: مناطقي/طائفي/طبقي، وأن إزالته هي الشرط الموضوعي لبناء وحدةٍ وطنية صلبة. لذلك أسّس "حركة المحرومين" كتيار اجتماعي عابر للطوائف، وربط بين مفهوم العيش الكريم وتكافؤ الفرص وبين معنى الوطن نفسه: حيث لا وجود لوطن حقيقي مع بقاء الكتلة الأكبر من مواطنيه خارج الحماية والخدمات والتمثيل. في فكر السيد الصدر علاقة جدلية بين العدالة والوحدة: كلّ تمييزٍ في الخدمات أو التنمية أو الوظائف يعمّق الانقسام، وتتمثل العدالة التي كان السيد الصدر يرمي إليها بالإنماء المتوازن، وضمان التعليم والصحة للجميع، ووجود اقتصاد منتج لا ريعي، وإدارةٌ توزّع موارد الدولة وفق معيار المواطنة.

التوازن السياسي وضمان المشاركة

لم يدافع الإمام عن "التوازن الطائفي" بوصفه قيداً على الدولة، بل كآلية انتقالية لصون السلم الأهلي ومنع الاستئثار. وساهم في إشراك الطوائف في مؤسسات الدولة لتنشط "تحت سقف الدولة"، لا بموازاتها. من هنا دعوته المبكّرة إلى إصلاحات بنيوية تتمثل في: إلغاء الطائفية السياسية تدريجياً، إنشاء مجلس شيوخ لضمان هواجس المكوّنات، تعديل قانون الانتخاب باتجاه دائرة وطنية واحدة، وتوسيع اللامركزية الإدارية لا السياسية. كان الهدف منه تفكيك المحاصصة عبر تمثيل صحيح ينقل الطوائف من كونها "كيانات دفاعية" إلى شركاء في مشروع دولة.

الحوار الإسلامي–المسيحي والتنوع الحضاري

"وأنا جالسٌ تحت الصليب قلت كلاماً ينفع المسلمين والمسيحيين ويخدم وطناً هو للجميع". وهذا الكلام يصور فكر السيد الصدر الجامع الذي لم يميز بين الإسلام والمسيحية ورأى فيهما ركيزة لبناء الدولة. كما اعتبر لبنان "ضرورة حضارية ودينية" في آن ومختبراً عالمياً للقاء الإسلام والمسيحية، وجسراً بين الشرق والغرب. فكان تنوع الطوائف عنده عاملُ وحدة، أمّا الطائفية فعاملُ انقسام. لذلك أسّس لجنة الحوار الإسلامي–المسيحي، وواجه الطائفية كنظام سلطوي.

المواطنة والانتماء

صاغ الإمام معادلة قاطعة: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". فاعتبر المواطنة حقٌّ وواجب؛ فإذا غلب الحقّ بلا واجب صار الوطن مزرعة، وإذا غلب الواجب بلا حق صار الوطن مستعمرة. لذلك دعا إلى توحيد الأحوال الشخصية باتجاه تشريع جامع (أي دولة المواطنة التي تلغي الطائفية السياسية وتؤمن المساواة الفعلية بين المواطنين)، والمواطنة بنظره لا تستقيم مع تشظّي النظام القانوني على خطوط الجماعات. رفض الدولة "المارونية" و"الشيعية" و"السنّية" وسواها. ومن هذا المنطلق تُصبح هوية لبنان هوية دولة مدنية دستورية، تتّسع للعروبة والمقاومة وحقوق الإنسان معاً.

 لو كان الإمام حاضراً اليوم

لو عاد الإمام اليوم لرأى في تبعية السلطة للخارج نقيضاً لفكرة الوطن المقتدر؛ ولحذّر من تحويل المساعدات والودائع والوساطات إلى بديلٍ من الإصلاح والسيادة. سيقترح، بالأدوات نفسها التي طرحها عام 1977، خريطة طريق عملية: حوار وطني مُلزم يفضي إلى جدولٍ تشريعي بإلغاءٍ مرحلي للطائفية السياسية، مجلس شيوخ يطمئن ويحفظ حقوقها لا سيما الأقليات منها، قانون انتخاب وطني يضع المواطن أمام برامج حقيقية تنفذ ولا تكون حبر على ورق، واقتصاد منتج يحرّر القرار المالي من الارتهان للخارج -حيث ينتظر لبنان إعادة الإعمار ولا يحصل عليه-. كما سيؤكد على ضرورة وجود المقاومة ولن يقبل بالخضوع للاحتلال وسيطالب باستمرار العمل المقاوم ضد الكيان لحماية كل لبنان من هذا التهديد. كما سيعتبر قرارات الحكومة مهينة للسيادة ولا يمكن السكوت عنها والقبول فيها. موقف السيد موسى الذي كان مشرفاً ووطنياً بامتياز يجب أن يكون درساً لكل صاحب سلطة ومنصب.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور