تُعدّ العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة من أهم محاور الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين، إلا أنّ هذه العلاقات شهدت تحولات عميقة في السنوات الأخيرة، خصوصًا مع وصول إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة في عام 2017. مثّلت تلك المرحلة نقطة انعطاف حاسمة في نهج الولايات المتحدة تجاه الصين، إذ تم الانتقال من سياسة "الاحتواء الناعم" والتعاون الاقتصادي المشروط إلى سياسة هجومية صريحة تُحمّل الصين مسؤولية الاختلالات في النظام التجاري العالمي.
في ظل هذا التحول، اندلعت ما بات يُعرف بـ"الحرب التجارية" بين القوتين، حيث فُرضت رسوم جمركية متبادلة وتصاعدت لغة الاتهام حول قضايا مثل سرقة التكنولوجيا، الإعانات الحكومية، واختلال الميزان التجاري. جاء هذا التصعيد في وقت كانت فيه البيئة الجيوسياسية تشهد تحولات موازية، من أبرزها:
- صعود الصين كقوة اقتصادية وتكنولوجية تنافس على القيادة العالمية.
- تنامي النزعة الانعزالية والحمائية في السياسة الخارجية الأمريكية.
- تراجع فاعلية المؤسسات متعددة الأطراف، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية.
- تصاعد التوتر في شرق آسيا، خاصة في بحر الصين الجنوبي وتايوان.
كل ذلك جعل من الاتفاق التجاري الموقّع بين البلدين في يناير 2020، والمعروف بـ"اتفاق المرحلة الأولى"، ليس مجرد صفقة اقتصادية، بل أداة سياسية ضمن صراع استراتيجي أشمل يعيد تشكيل معالم النظام العالمي.
تتناول هذه الورقة مسار الاتفاقية التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والتي وُقّعت في يناير 2020 ضمن ما عُرف بـ "اتفاق المرحلة الأولى"، في محاولة لاحتواء تداعيات الحرب التجارية التي اندلعت بين البلدين خلال إدارة ترامب. يستعرض البحث الخلفيات السياسية والاقتصادية التي أدت إلى نشوء الاتفاق، ويفصل أبرز بنوده المتعلقة بالمشتريات الصينية، حماية الملكية الفكرية، السياسة النقدية، وآليات التنفيذ.
غير أن الاتفاق لم ينجح في إحداث تحول جوهري في طبيعة العلاقة بين الطرفين، بل سرعان ما استؤنف التصعيد، خاصة في عهد إدارة بايدن، التي وسّعت نطاق المواجهة ليشمل المجالات التكنولوجية والجيوسياسية. يحلل البحث أيضًا تداعيات الاتفاق على النظام التجاري العالمي، قبل أن يستعرض التحولات الراهنة التي تشهدها العلاقات الثنائية، والتي تنذر بتحوّل استراتيجي نحو صراع شامل قد يُفضي إلى حرب باردة جديدة.
بالخلاصة، تُمثل الاتفاقية التجارية بين الصين والولايات المتحدة في يناير 2020 محطة مفصلية في مسار العلاقات الثنائية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، لكنها لم تكن نهاية للنزاع بقدر ما كانت هدنة مؤقتة ضمن صراع أعمق وأكثر تعقيدًا. فقد عكست الاتفاقية حالة من البراغماتية المرحلية، حيث سعى الطرفان لتخفيف التوتر في سياق ظروف اقتصادية دولية صعبة، دون معالجة الأسباب الجذرية للاحتكاك، وعلى رأسها اختلال موازين القوة والتنافس التكنولوجي والنزعة السيادية المتصاعدة. لكن سرعان ما عادت العلاقة إلى مسارها التصادمي، لا سيما مع إدارة بايدن التي وإن اختلفت في الأسلوب عن سابقتها، إلا أنها حافظت على جوهر الاستراتيجية الأمريكية في احتواء الصين ومنع تحولها إلى قوة مهيمنة عالميًا. وقد أخذت هذه المواجهة أبعادًا متعددة: من العقوبات الاقتصادية إلى الصدام الجيوسياسي في بحر الصين وتايوان، ومن السباق التكنولوجي إلى إعادة تشكيل التحالفات الدولية.
في هذا السياق، لم تعد المسألة مجرد "نزاع تجاري"، بل تحوّلت إلى صراع بنيوي بين نموذجين اقتصاديين وسياسيين متضادين، تُعيدان تشكيل النظام العالمي برمّته. وفي ظل غياب آلية واضحة لإدارة هذا الصراع، تزداد احتمالات التصادم، سواء من خلال حروب تجارية أشد شراسة، أو حتى مواجهات عسكرية غير محسوبة في مناطق التماس. إن إدراك الطبيعة المعقدة لهذه العلاقة لم يعد ترفًا أكاديميًا، بل بات ضرورة لفهم مسار الاقتصاد العالمي واستقرار النظام الدولي في السنوات القادمة. فالمستقبل لا يُرسم فقط في واشنطن أو بكين، بل في الطريقة التي سيُدار بها هذا الصراع: هل يتحول إلى توازن تنافسي مستقر، أم إلى حرب باردة جديدة تهدد الجميع؟
لتحميل الدراسة من هنا