إثر تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانية، تتجه الأنظار الى مدينته طرابلس التي تعصف بها الأزمات المعيشية والاقتصادية، وتترك آثارها على الواقع السياسي للمدينة، وفيما يشعر الطرابلسيون أنهم متروكون رغم وجود شخصيات سياسية مقتدرة وقوية مالياً في المدينة (ومنها ميقاتي) تشهد المدينة تدخلًا غريبًا، ونموًا مضطردًا لجماعات وأفراد ومؤسسات تمثل النفوذ التركي، وتحظى بدعم مالي وتسليحي من اسطنبول حسب المعطيات، حيث رُصدت تحركات مسلحة في الشمال، كما يجري الحديث في بعض الأوساط عن عمليات توزيع أسلحة في أكثر من منطقة، خاصة في طرابلس وعكار.
مصادر للخنادق أكدت ان هذه التحركات بتمويل تركي مباشر، وأنه في إطار سعيها لإعادة تشبيك تموضعاتها في منطقة الشرق الأوسط تدخل تركيا على خط الأزمة اللبنانية، وهو ليس تغييرًا مفاجئًا طرأ على السياسة التركية تجاه لبنان، بل هو امتداد لما تقوم به منذ سنوات، خاصة في الشمال ومدينة طرابلس وقراها تحديدًا، لكن المغاير هذه المرة هو "الجرأة" في توسيع نطاق التدخل بهذا الشكل، حيث اتسعت دائرة "الهبات" الإنسانية لتشمل التدريبات العسكرية للمقاتلين اللبنانيين في معسكرات تركية، وتجنيد مجموعة كبيرة من الأشخاص، إضافة إلى منح الجنسية التركية لعائلات بأكملها من أهالي عكار والشمال..
تركيا إلى لبنان من بوابة طرابلس
ساهمت العديد من الأسباب في تسهيل حركة تركيا في لبنان، ليس فقط ضعف الدولة في حماية سيادتها من التدخلات الخارجية، وتحصين بيئتها من أي اعتداء خارجي مهما كان شكله وطبيعته، بل مجموعة من العوامل أبرزها:
- الأوضاع المعيشية والاجتماعية الصعبة: والتي ترزح مدينة طرابلس تحت وطأتها منذ عقود، في ظل إهمال ""ممنهج" مارسته الدولة عليها، فالأحزاب السياسية الحاكمة لتلك المنطقة، لم تقدم ما يمكن ان يغيّر واقعًا أو يحدث فرقًا، وقد لا نبالغ ان قلنا بأن الحفاظ على الواقع المتردي في طرابلس كان مطلوبًا بالنسبة لهذه الطبقة، لتحصين قدرتها على استغلال مطالبها المعيشية المحقة مع كل استحقاق سياسي، مما يجعل من هذه المدينة ارضًا خصبة للاستغلال.
- تراجع شعبية ونفوذ تيار المستقبل كان له تأثير عميق في تسهيل الطريق لأي حضور آخر، وهنا لا نتكلم عن أفول نجم حزب لصالح آخر، بل هو بمثابة صراع دول، بين السعودية التي تراجع دعمها للتيار بشكل كبير ولافت وشخص رئيسه سعد الحريري، وبين تركيا الطامحة لتثبيت وجودها كفاعل مستجد في الساحة اللبنانية.
- في الوقت عينه تسعى تركيا إلى دور أكبر في منطقة الشرق الأوسط، وتوليها اهتمامًا واسعًا في سياستها الخارجية، وصلت إلى حد تدخلها عسكريًّا في سوريا، والهجوم البري والجوي على العراق بحجة ملاحقة "مقاتلين تابعين لحزب العمال الكردستاني". وما تدخلها في لبنان إلا أحد أوجه هذه السياسة وترجمة لأطماعها في حجز مقعد قرار لها بين الدول المسيطرة على المنطقة، وتعتبر ان شمال لبنان هو موطىء القدم الذي تسعى اليه، والحلقة الأضعف لتحقيق ما ترمي إليه.
ما هي أشكال التدخل والنفوذ التركي في الشمال؟
تدخل تركيا إلى الساحة اللبنانية من أبواب عدّة:
ولعل أخطرها تلك التي تأخذ طابعًا عسكريًّا، من تدريب مجموعات وتمويلها وتسليحها، ويتداول الطرابلسيون أسماء أشخاص زاروا تركيا وخضعوا لدورات عسكرية تدريبية في المعسكرات التركية، وقد عُرف منهم المدعو "م ش" مواليد 1976 الضنية بقرصونا وهو الرجل الثاني في "حراس المدينة"، "ع ب" مواليد 1995 وهو فلسطيني الجنسية، و"م ف" مواليد 1969 الحدادين.
مصادر للخنادق كشفت عن أساليب التغلغل التركي في طرابلس ومنها تجهيز مطبخ ضخم في الطوابق السفلية لأحد مساجد منطقة القبة، بلغت كلفته حوالي مئات ملايين الليرات، بهدف "مساعدة الأحياء الفقيرة"، لكن اللافت في الأمر هو أن أغلب الناشطين داخل المسجد متهمون بقضايا إرهاب أبرزهم المدعو "ه م"، فيما يتولى قيادة هذه المجموعات الشيخ "خ م" ابن الشيخ "زم"، في حين يُمنع على "الأشخاص غير الموثوقين" دخول المسجد، وأضافت المصادر عينها ان التمويل أتى بشكل مباشر من تركيا عبر خلية تابعة لجماعة الاخوان المسلمين، ويبرز هنا اسم المدعو "أسامة عنتر" الذي قبض عليه بتهمة تجنيد مقاتلين وارسالهم عبر تركيا إلى سوريا، وهو مؤذن في جامع التقوى واحد المقربين من الشيخ سالم الرافعي.
غير ان اللافت لم يكن فقط الزيارات المتكررة للسفير التركي السابق هاكان تشاكل، إلى مناطق الشمال، بل ما يدعو إلى الريبة هو مرافقة بعض الأشخاص له، خاصة خلال زيارته في 27 شباط الفائت، متهمون بقضايا إرهاب وملفات امنية أبرزهم المدعو عبد الرحمن التركماني الملقب ابو جمال، وهو عضو في جمعية التركمان التي تتلقى "المساعدات التركية" مباشرة، حسب المصادر.
وكانت تقارير استخباراتية سابقة قد كشفت خلال الحرب السورية عن ان "المخابرات التركية جهزّت ودرّبت مجموعات ارهابية لنقلها الى شمال لبنان، وان هذه المجموعات حاولت شق دفرسوار من إدلب الى تدمر وحماة وصولًا الى الشمال اللبناني، ولجأت الى اعتماد طرق للانتقال والتجمع في مناطق ريف حماة القريبة من الحدود اللبنانية للدخول الى تل كلخ والانتشار في الشمال بالتعاون مع قوات سلفية في المنطقة"، وكانت قوات الجيش السوري قد اعتقلت قياديين من تنظيمات إرهابية أثناء هذه العملية، كما كشف اللواء علي مملوك وقتها.
إعطاء الجنسية التركية لعائلات بأكملها في عكار
وان استطاعت تركيا ان تؤخر توقيت الكشف عن كل هذه التجاوزات والتدخلات لبعض الوقت، فإن إعادة "نبش" الأصول التاريخية لعائلات لبنانيّة وأنها تعود لأصول تركية، و"الإغراء" المتزايد لها بمنحها الجنسية التركية -عبر الجمعية اللبنانية التركية أو رابطة التركمان في لبنان- قد كشف عن مدى خطورة مساعيها في توسيع تمددها الديموغرافي والثقافي، والتي تحاول من خلاله تنظيم التواجد التركماني في لبنان ضمن تجمع سياسي قد يمكّنها لاحقًا من توظيفه في الانتخابات النيابية والحصول على مقاعد تمثلها في البرلمان.
تعتبر قرية الكواشرة في قضاء عكار أكبر تجمع للتركمان في البلاد، حيث يبلغ عددهم ما يقارب 40 ألف نسمة، فتركيا "لن تترك أبناء جلدتها التركمان سواء في لبنان أو أي مكان آخر في العالم"، كما صرّح وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو عقب زيارته إلى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، غير ان أوغلو لم يخبرنا عن مدى ترحيب المواطنين الأتراك بالمجنسين الجدد، علمًا ان من يملكون الجنسية التركية "من أبناء جلدة أوغلو واردوغان" قد تعرضوا للقصف والاضطهاد ليس فقط في الداخل التركي بل ضمن الأراضي السورية والعراقية ودول الجوار، أم ان "الدم لا يحن" إلا على التركمان في لبنان!
عن الهبات والمساعدات التركية والمؤسسات التي تتعامل مع تركيا تحت غطاء إنساني، والنفوذ التركي عبر المدارس والجامعات، والبضاعة التركية المنتشرة في الأسواق، وبعض الجهات السياسية التي تتواصل مع تركيا وتحظى بدعمها، والصراع بين تركيا وقطر والاخوان من جهة، والسلفية والوهابية والسعودية من جهة ثانية، وغيرها نتحدث في الجزء الثاني يتبع..
الكاتب: غرفة التحرير