الإثنين 24 تشرين ثاني , 2025 10:10

اتساع موجة الهجرة من كيان الاحتلال: انعكاسات بنيوية طويلة الأمد

تُظهِر البيانات الصادرة خلال العامين الماضيين عن مكتب الإحصاءات المركزي في كيان الاحتلال أن الأخير يشهد موجة هجرة آخذة في التوسع، تُوصَف من قبل خبراء وشخصيات برلمانية بأنها الأكبر منذ سنوات طويلة، وبأنّ آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مرشحة للتعمّق على مدى عقود. فخلال عام 2024 وحده، غادر أكثر من 80 ألف شخص من أصل نحو عشرة ملايين مستوطن، بينما تشير التقديرات إلى تسجيل أرقام مشابهة هذا العام. هذه الحركة لم تبدأ مع الحرب على غزة، لكنها تسارعت بشدة بعدها، إذ انضم إليها آلاف ممّن فقدوا الثقة ببيئة الاستقرار العام، سواء على المستوى الأمني أو السياسي أو الاقتصادي.

تشير الدراسات الاجتماعية والديموغرافية إلى أنّ هذه الموجة تحمل خصائص نوعية: معظم المغادرين من الطبقات المتعلمة، أصحاب الدخل المرتفع، العلمانيين، وذوي التوجهات اليسارية. وتضمّ نسبة كبيرة من العاملين في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وهو القطاع الذي لا يشكّل سوى 11% من القوى العاملة ولكنه يساهم بثلث إيرادات الضرائب. هذا المكوّن، وفق تقديرات أكاديمية إسرائيلية، هو الأكثر تمثيلاً بين المهاجرين الجدد، ما يعني أنّ آثار الهجرة تتجاوز الجانب الديموغرافي لتصل إلى البنية الاقتصادية ذاتها.

الانعكاسات السلبية المحتملة على السوق ظهرت مبكراً. أوّلاً، خسارة رأس المال البشري في القطاعات الحيوية تُضعِف القدرة التنافسية للاقتصاد. وثانياً، أنّ جزءاً من هؤلاء المغادرين - وفق مراكز أبحاث محلية- هم من الأزواج والعائلات الشابة، ما يعني انتقال مستقبلهم الاقتصادي والتعليمي إلى الخارج. هذه الفجوة ترتبط مباشرة بمخاوف تتعلق باتجاهات الحكم، التوترات السياسية، وحالة عدم اليقين التي عمّقت انقسامات داخلية حادة.

لم تكن الدوافع مهنية فقط كما كان الحال قبل حرب غزة. فوفق شهادات لمسؤولين في وكالات تنظيم الهجرة، أصبح البعد النفسي والأمني العامل الأكثر حضوراً لدى فئة واسعة من المغادرين. الحرب التي استمرت 12 يوماً مع إيران في حزيران/يونيو الماضي، وما رافقها من قصف مباشر على تل أبيب، خلقت مناخاً جديداً من القلق الوجودي انعكس حتى على الأسر التي كانت في السابق مترددة في التفكير بالهجرة. الخوف من عدم الاستقرار وتكرار المواجهات العسكرية، إلى جانب الجدل الداخلي الحاد حول سياسات الحكومة، دفع كثيرين لاتخاذ قرار المغادرة، بعضهم بصورة مؤقتة، وبعضهم بصورة مفتوحة زمنياً.

التحوّل المجتمعي كان واضحاً أيضاً في أعقاب هجوم 7 أكتوبر، الذي وصف بأنه الأكثر دموية في تاريخ الكيان. إذ امتلأت مجموعات التواصل الاجتماعي العائلية والمناطقية بأسئلة تتعلق بالتربية في بيئة الخوف المتزايد، مثل "حمل الأطفال للسكاكين أو مشاهدتهم مقاطع مروعة للرهائن". هذه التحولات النفسية ساهمت في تعزيز قرار المغادرة لدى فئات كانت تعتبر البقاء خياراً وحيداً.

على المستوى السياسي، يمثّل النزيف الديموغرافي تحدّياً مباشراً لنمط المشاركة في الانتخابات. فمعظم المغادرين من ذوي التوجهات اليسارية، ومع أن المغتربين لا يملكون حق التصويت من الخارج، فإنّ خروج هذه الكتلة يعزز اختلال التوازن الانتخابي الداخلي. هذا ما دفع رئيس لجنة شؤون الشتات في الكنيست، جلعاد كاريف، إلى وصف الظاهرة بأنها "تسونامي" لا مجرد موجة عادية، محذراً من أنها تهدد "صمود المجتمع وتشكّل تهديداً استراتيجياً". التقرير الذي ناقشته اللجنة أظهر بوضوح أنّ عدد المغادرين إلى إقامة طويلة ارتفع منذ 2022، مقابل تراجع واضح في عدد العائدين.

الأرقام المحلية تعكس المنحى نفسه: ففي ثلاث مدن فقط بتاح تكفا، ريشون لتسيون، ورمات غان  غادر 13400 شخص خلال 2022–2024، ولم يعد منهم سوى 5303، أي بخسارة صافية تبلغ 8097 شخصاً. هذه مدن تمثيلية لا تغطي كامل المشهد، ما يعني أنّ الصورة أبعد وأكثر عمقاً.

من بين المؤشرات المباشرة لانعكاسات الهجرة تراجع الطلب على الشقق. فمع مغادرة السكان، ينخفض الطلب، ما يضغط على الأسعار. وفي الربع الثالث من هذا العام، سُجّل بيع 23330 شقة فقط، بانخفاض موسمي نسبته 16% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. أما مبيعات الشقق الجديدة فانخفضت بنسبة 21.5%. وحتى هذه الأرقام تعتمد بشدة على برامج الدعم الحكومية، التي شكّلت 31% من المبيعات خلال العام الماضي. وبدون هذه البرامج، تقول البيانات الرسمية إن السوق كان سيتعرض لانهيار فعلي في عمليات الشراء.

ما يعكسه هذا المشهد هو أنّ الهجرة في كيان الاحتلال لم تعد ظاهرة فردية أو اقتصادية صرف، بل باتت دليلاً على اختلال داخلي بنيوي يتفاعل مع الأزمات الأمنية والسياسية والاجتماعية. وإذا استمر الاتجاه الحالي، فإنّ آثار السنوات المقبلة لن تكون محصورة في توازن القوى السياسية، بل قد تطال ركائز الاقتصاد وقدرة الكيان على الاحتفاظ بكتلته البشرية الأكثر إنتاجية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور