بعد مرور أكثر من عام على عملية "طوفان الأقصى"، يجد كيان الاحتلال نفسه أمام مأزق اقتصادي واستراتيجي. فبينما تسعى حكومة بنيامين نتنياهو إلى تسويق خيار احتلال غزة باعتباره "الحل النهائي" لمعضلة المقاومة، تتراكم التحذيرات الداخلية التي ترى في هذه الخطوة انتحاراً اقتصادياً سيقود إلى أزمة خانقة تهدد مكانة إسرائيل.
تشير تقديرات كبار الخبراء الاقتصاديين في الداخل الإسرائيلي إلى أن تكلفة الاحتلال المباشر ستتراوح بين 100 و180 مليار شيكل. هذا المبلغ يوازي ما يقارب خمس الميزانية العامة (840 مليار شيكل)، ويأتي في وقت تجاوزت فيه وزارة الدفاع مخصصاتها أصلاً بنحو 30 مليار شيكل منذ بداية الحرب. ومع أن الحكومة تحاول تمرير ميزانية معدلة بزيادة 31 مليار شيكل، إلا أن هذه الزيادة تغطي فقط ما صُرف حتى الآن، من دون حساب التكلفة المستقبلية لاحتلال غزة.
اللافت أن التحذيرات لا تقتصر على المعارضة السياسية أو مراكز أبحاث مستقلة، بل صدرت عن أكثر من 80 شخصية اقتصادية كبيرة، من بينهم محافظون سابقون للبنك المركزي ورؤساء شركات كبرى وأساتذة جامعيون. هؤلاء وقعوا عريضة مشتركة حذّروا فيها من أن استمرار الحرب والذهاب نحو احتلال غزة "سيجرّ الاقتصاد الإسرائيلي إلى تدهور خطير" قد يفضي إلى أزمة ديون حقيقية وخفض التصنيف الائتماني.
تتطلب خطة الاحتلال تعبئة لا تقل عن 130 ألف جندي احتياط، وهو ما يكلف 5.5 مليارات شيكل شهرياً بين رواتب وحماية وتعويضات. وإذا استمر هذا الوضع خمسة أشهر، فإن الإنفاق على بند الاحتياط وحده سيبلغ 28 مليار شيكل. وهناك من يتحدث عن إمكانية رفع العدد إلى ربع مليون جندي، بما يعني تضاعف الأعباء.
بالتوازي، يواصل الجيش استهلاك الذخيرة والمعدات بمعدل 350 مليون شيكل يومياً، أي ما يعادل 10 إلى 11 مليار شيكل شهرياً. ومع إضافة تكلفة الإدارة المدنية والعسكرية للقطاع، التي تُقدّر بـ10 إلى 15 مليار شيكل شهرياً، يصبح واضحاً أن أي خطة طويلة الأمد لاحتلال غزة ستستنزف ما بين 120 و180 مليار شيكل سنوياً.
لا تنحصر الخسائر في الحسابات المالية المباشرة، بل تمتد إلى مستويات أخرى. فالعريضة الاقتصادية حذرت من تسارع هجرة الأدمغة ورأس المال البشري، وهو ما يهدد الإنتاجية والنمو على مدار السنوات القادمة. في حين أظهرت مؤشرات غير رسمية اتجاهاً متزايداً للشباب الإسرائيلي نحو الهجرة، بحثاً عن الاستقرار الاقتصادي والهروب من أجواء الحرب المستمرة.
كما أن استمرار الإنفاق الدفاعي بلا سقف يفرض ضغوطاً على الوزارات المدنية، بما ينذر بتخفيضات حادة في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وذهب بعض المحللين إلى التحذير من احتمال المساس بصناديق التقاعد أو حتى تأميمها، وهو سيناريو يعكس حجم الأزمة المالية المتوقعة.
على الصعيد الخارجي، يواجه كيان الاحتلال مقاطعة متنامية تشمل السياحة، والأنشطة الأكاديمية، والتبادل التجاري والعسكري. ومع ازدياد الدعوات لفرض عقوبات أوروبية، تلوح في الأفق احتمالية تراجع الاستثمارات وارتفاع أسعار الفائدة وتدهور بيئة الأعمال. هذا الوضع يهدد مباشرة قدرة إسرائيل على الحفاظ على موقعها في الأسواق العالمية، خصوصاً في القطاعات التكنولوجية المتقدمة التي شكّلت لعقود ركيزة الاقتصاد.
إلى جانب الأرقام التي شكلت صدمة فعلية لكبار مسؤولي واقتصاديي الكيان، تتزايد الانتقادات السياسية والإعلامية لقيادة نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش. فصحيفة "والا" حذرت صراحة من "هاوية اقتصادية" يقودان إليها الكيان، معتبرة أن ربع الميزانية سيُخصص لخطوة عسكرية بلا جدوى. أما "معاريف"، فاتهمت الحكومة بخوض "حرب بلا هدف"، في وقت بلغت فيه أعداد الجرحى المعاقين نحو 20 ألفاً، وتجاوزت ميزانية الدفاع 140 مليار شيكل.
هذه الصورة تكشف عن فجوة متزايدة بين الخطاب السياسي الذي يَعِد بحسم عسكري، وبين الواقع الاقتصادي الذي ينهار تحت وطأة أرقام الفواتير المتراكمة. وإذا كان الهدف المعلن هو "إضعاف حماس"، فإن النتيجة الفعلية تبدو حتى الآن مزيداً من الإنهاك الداخلي والتصدع المال وبين الشارع الاسرائيلي وقيادته.
إن احتلال غزة ليس مجرد ملف عسكري، بل تحدٍ استراتيجي يضع كيان الاحتلال أمام معادلة مستحيلة: إما الاستمرار في حرب استنزاف بلا أفق، أو مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية قد تهدد بنيته الداخلية وبناءه الاقتصادي. ما كان يُنظر إليه كخيار عسكري لحسم الصراع، بات يُقرأ اليوم داخل إسرائيل نفسها كخطر وجودي اقتصادي. وبينما تمضي الحكومة الحالية في نهجها التصعيدي، تتعالى أصوات "النخبة الاقتصادية والسياسية" المحذّرة من أن الطريق الحالي يقود إلى انهيار قد يكون أعقد من نتائج أي معركة عسكرية.
الكاتب: غرفة التحرير