الجمعة 21 تشرين ثاني , 2025 03:28

هشاشة الشمال الإسرائيلي: كيف يرى سكان الشمال خطر تجدد الحرب مع حزب الله؟

المستوطنون في الشمال الإسرائيلي

ينظر سكان الشمال في الكيان الإسرائيلي إلى احتمال تجدد الحرب مع حزب الله من موقع معقّد يتقاطع فيه الخوف مع الحاجة إلى الأمن، وتتداخل فيه الحسابات اليومية مع هواجس مستقبلية لم تُدفن بعد. ستار الهدوء الظاهري الذي يخيم على المنطقة لا يخفي ارتجاجاً داخلياً عميقاً يرافق هذا المجتمع منذ الحرب السابقة، ويجعل موقفه من أي مواجهة جديدة محكوماً بالتردد والتناقض والحذر.

في المستوى الأول، تتأثر توجهات السكان بمنظومة من أربعة عناصر أساسية: الشرعية التي يمنحونها للقيادة، الحساسية تجاه الخسائر، القدرة على الامتثال، وإمكانية الارتداد الشعبي ضد القرار السياسي. الشرعية ليست مطلقة، بل مشروطة بنتائج حاسمة وبتعهدات تمنع تكرار سيناريوهات الحرب الأخيرة. الجمهور يقبل عمليات محدودة تُقدَّم له بوصفها ضرورية للأمن، لكنه لا يمنح الضوء الأخضر لحرب واسعة بلا ضمانات واضحة. الحساسية مرتفعة إلى حدّ يجعل أي خسائر كبيرة أو تمدد طويل للحرب عاملاً قد يقلب المزاج العام رأساً على عقب. أما الامتثال، فهو مرتبط بشعور السكان بالحماية، فكلما تراجع هذا الشعور، كلما فقدت القيادة قدرتها على ضبط الجبهة الداخلية. ويبقى الارتداد الشعبي، المباشر أو غير المباشر، التعقيد الأخطر، لأنه قد ينتقل إلى صفوف الجيش حيث يخدم كثيرون من أبناء الشمال.

هذه العناصر تشكل أرضية هشّة تُبنى عليها مواقف متناقضة. فالثقة بالجيش مرتفعة، خصوصاً حين يرى الجمهور أن حزب الله لا يرد، ولكن في اللحظة نفسها يتزايد القلق من أن ارتفاع وتيرة الهجمات قد يكون دليلاً على تحول في ميزان الخطر. هذا التناقض يجعل المجتمع الشمالي واقعاً بين رغبة في التخلص من التهديد، وخوف من أن يؤدي ذلك إلى حرب شاملة لا يحتملها. يُفضّل الجمهور الأمن بلا حرب، ويخشى حرباً لا توفر الأمن، ويرى أن التصعيد المحدود هو الحدّ المقبول شرط ألا ينقلب إلى مواجهة مفتوحة.

في خلفية الموقف العام تظهر فجوة عميقة في فهم الواقع الأمني. السكان يريدون نتيجة نهائية تُنهي تهديد حزب الله، لكنهم يدركون في الوقت نفسه أن هذه النتيجة شبه مستحيلة. كما يشعرون بأن أي حدث طارئ أو قراءة خاطئة للمشهد قد يدفع القيادة نحو مغامرة جديدة. هذا الإدراك يجعلهم أكثر تمسكاً بروتين حياتهم اليومي، وأكثر حساسية لأي خلل صغير يمكن أن يعيدهم إلى حالة الإخلاء والمعاناة النفسية التي مرّوا بها.

من جهة أخرى، لا يجد السكان في قيادتهم ضمانات حقيقية. فالإعمار متعثر، والوعود الحكومية تُستنزف لصالح حسابات سياسية، والميزانيات تتعرض لإعادة توزيع تخدم مصالح انتخابية أكثر مما تخدم الشمال. نقص الكوادر المهنية في الصحة والتعليم، تجميد مشاريع البنية التحتية، تقلّص الحركة التجارية، وانهيار قطاعات اقتصادية أساسية مثل صناعة الألبان، كلها عوامل تضع المجتمع في حالة هشاشة طويلة المدى. هذه الهشاشة تجعل أي تهديد جديد مضاعفاً، وتزيد تردد السكان للعودة إلى بلداتهم أو الاستثمار فيها.

وتبرز تحولات ديمغرافية تزيد المشهد تعقيداً. فالفراغ السكاني يُملأ باستقدام مجموعات يهودية من الخارج أو بنقل المتدينين إلى الجليل عبر منح مالية، في حين يغادر الشباب منطقة الشمال نحو المركز بحثاً عن حياة مستقرة. البلدات المخلاة وغير المخلاة تعيش انقساماً واضحاً، والاختلاف بين من حصل على مساعدات ومن لم يحصل عليها يعمّق الفجوة الاجتماعية. حتى رياض الأطفال أقفلت أبوابها بسبب نقص الأطفال، ما يعكس مدى تأثير الحرب على المسار الطبيعي للحياة.

هذه المعطيات تجعل قدرة المجتمع الشمالي على تحمل حرب جديدة منخفضة جداً، لأن أي تصعيد سيقود إلى موجة نزوح ثانية، ويقضي على ما تبقى من إمكانية إعادة الإعمار. ومع ذلك، قد تتحول مزاجات السكان سريعاً إذا حدث تغيير كبير في المعادلة الميدانية، مثل هجوم كبير من حزب الله أو حادث أمني يُضخّ في الإعلام بوصفه تهديداً وشيكاً. في مثل هذه اللحظة يمكن للدعاية الإسرائيلية أن تصوغ رواية جديدة تحشد الشمال خلف خيار الحرب، ولو مؤقتاً. لكن المشكلة تظهر بعد الحرب: كيف تعيد القيادة هؤلاء السكان إلى الشمال؟ وكيف تقنعهم بالبقاء في منطقة يشعرون أنها بلا أمان ولا مستقبل؟

رغم قابلية المجتمع للتأثر بمسار الحرب، تبقى حدود تأثيره على قرار القيادة غير نهائية. فالحكومة يمكنها تجاوز الرفض الشعبي إذا أرادت شنّ الحرب، لكنّ إعادة السكان إلى حياتهم ستكون المهمة الأعقد. لذلك، تُحسب الحرب المحتملة ليس فقط بميزان القوة العسكرية، بل بميزان قدرة الدولة على إعادة ترميم مجتمع هشّ، وإقناع المهجرين بالعودة إلى منطقة يرونها مفتوحة على المجهول.

هذا التداخل بين الأمن والاجتماع والاقتصاد يجعل الشمال بيئة غير جاهزة لأي مواجهة جديدة. المبادرات التي يتحدث عنها المسؤولون، سواء لإعادة إعمار الشمال أو لتحفيز المشاريع الصغيرة، لا تزال سطحية ولا تقارب حجم التحديات. استمرار الأزمة المعيشية يشكل ضغطاً خفياً لكنه بالغ التأثير، ويمنع تشكّل جمهور قادر على تحمّل صدمات كبيرة.

في السياق نفسه، تحمل الجبهة الشمالية نقطة كسر واضحة: نزوح جديد، أو خسائر بشرية كبيرة، أو حرب طويلة. أي من هذه العناصر قادر على إحداث انهيار كامل في النسيج الاجتماعي الشمالي. وحتى لو بقيت العمليات العسكرية ضمن حدودها الحالية، يبقى الخطر قائماً طالما أن الاستقرار الأمني هشّ وقابل للتبدل بسرعة.

في المحصلة، لا يقف المجتمع الشمالي اليوم على أرضية صلبة تسمح له بتحمل حرب جديدة، ولا يمتلك قدرة طويلة على الصمود أمام اشتباكات واسعة. وبين الحاجة إلى الأمن والخوف من الحرب، يبقى هذا المجتمع أسير توازن هشّ لا يستطيع الاعتماد عليه طويلاً، فيما تبقى القيادة منشغلة بقراءة هذه الهشاشة ومحاولة استغلالها أو الالتفاف عليها عند الضرورة. التناقض الذي يعيشه سكان الشمال يختصر الحقيقة كلها: لا يريدون حرباً، ولا يثقون بالسلام القائم؛ يريدون أمناً كاملاً، ويعلمون أنهم لن يحصلوا عليه، ويرفضون المغامرة التي قد تطيح ما بقي من استقرار هشّ يسند حياتهم يوماً بعد يوم.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور