بالتوازي مع محاولة انهاء الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة وغيرها من الجبهات، بات المشهد الاقتصادي في كيان الاحتلال يخرج من نطاق الصدمات المؤقتة إلى مرحلة من التدهور البنيوي. ما بدا في البداية ركوداً مرتبطاً بأحداث عسكرية مؤقتة، تحوّل تدريجياً إلى عملية تآكل شاملة في عناصر النمو الأساسية: قطاع التكنولوجيا الذي شكّل دعامةً للاقتصاد، سوق العقار والائتمان، والقدرة على الحفاظ على القاعدة الضريبية والمجتمعية الضرورية لتمويل الكيان حتى لو أمعنت الرقابة في اخفاء التفاصيل.
أول مظاهر الأزمة تتجسّد في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، الذي كان يشكّل نسبة معتبرة من الناتج والصادرات. بعد ذروة في متوسط الأجور بلغت 36731 شيكل في آذار/مارس عام 2025، شهد القطاع تراجعاً سريعاً في الأجور ومؤشرات التوظيف. هذا الانزلاق ليس مجرد تقلب، بل يعكس فقدان ثقة المستثمرين وهجرة الكفاءات إلى خارج البلاد، ما يقلّص قدرة القطاع على تعويض خسائر القطاعات التقليدية ويضعف محرك الابتكار والتصدير. الاعتماد المركّز على قطاعٍ واحد أثبت أنه لا يكفي لامتصاص صدمات أمنية وسياسية طويلة الأمد.
في سوق العقار، تبدو الصورة أشدّ وضوحاً أيضاً، عرض واسع من الشقق المعروضة -أكثر من 80 ألف وحدة- بحسب الصحف والمواقع العبرية، مقابل تراجع في الطلب نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض الذي تجاوز مستويات 5% سنوياً. التكلفة المتصاعدة للتمويل جمدت مشاريع البناء وقلّصت قدرة الأسر على شراء المساكن، فيما توقف النشاط الاستثماري في القطاع العقاري عن كونه رافداً للاقتصاد إلى عبء يعمّق التراجع الاقتصادي.
العجز المالي والديون يضعان الكيان في مأزق مزدوج. العجز يتجاوز ربع الناتج في بعض التقديرات، والدين العام وصل إلى مستويات تضع الكيان أمام قيود تمويلية طويلة الأمد. قيم مالية باتت تضغط على السياسات الاقتصادية وتقلّص مساحة المناورة أمام الحكومة. في موازاة ذلك، تحوّل التضخم المنخفض في فتراتٍ لاحقة إلى مؤشر سلبي غالباً: انخفاض في الأسعار ينشأ عن تراجع الطلب وانخفاض القوة الشرائية، لا عن تحسّن في العرض أو قدرة المستهلكين على الإنفاق. هذا ما يخلق حالة قريبة من الركود التضخمي المزدوج: ضعف الاستهلاك مع استمرار ضغوط تكلفة التمويل.
القطاع السياحي من جهته، والذي كان يوفر دخلاً مهماً من العملة الأجنبية والوظائف في المناطق الحضرية، تراجع بشكل واضح مقارنةً بعام 2019، مع تراجع أعداد السائحين بنسبة كبيرة بلغت 82% وفق المعطيات المتوفرة، ما أدى إلى إفلاسات وإقفال مؤسسات وفقدان وظائف على غير صعيد. الصناعة التحويلية وقطاع البناء لم يكونا بمنأى عن الأزمة؛ توقف المشاريع وهروب رؤوس الأموال وأزمة السيولة أثّرت سلباً على قدرة الإنتاج والتصدير.
الهجرة الجماعية وتهجير العائلات المتوسطة والعليا تُعدّ من أخطر انعكاسات الأزمة. تشير المعطيات الواردة على لسان محللين إسرائيليين إلى مغادرة عشرات الآلاف من العائلات خلال فترات قصيرة، الأمر الذي لا يؤثر فقط على سوق العمل بل يقوّض القاعدة الضريبية ويقلّص الموارد المتاحة لتمويل الخدمات العامة. خروج رؤوس الأموال واستمرار تداعيات المقاطعات الدولية يزيدان من ضغوط السيولة ويجعلان الاقتصاد أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجية.
السياسة العامة في هذا السياق تواجه عقبات جوهرية. إنفاق يستهلكه المستوى العسكري بنسبة كبيرة -تتجاوز مكونات الإنفاق العسكري أكثر من 40% من النفقات في الظرف الحالي- يحرم القطاعات المدنية من التمويل اللازم للاستثمار والتعافي، بينما الانقسامات السياسية الداخلية تعطل إجراء إصلاحات بنيوية مطلوبة لاستعادة الثقة. غياب شفافية مالية كاملة وصعوبات في إقناع الأسواق الدوليين تُفاقم مشكلة تكلفة الاقتراض وتعرض التصنيف الائتماني للخطر، ما يجعل أي تعافي مرهوناً بإجراءات صعبة سياسياً واقتصادياً.
لا يمكن قراءة المشهد على أنه خلل مؤقت إذا استمرت هذه العوامل مجتمعة: هروب الكفاءات، تراجع الاستثمارات، تضخّم الديون، وتجمّد سوق الاستهلاك والاستثمار. ما تحتاجه السياسات الآن ليس وصفاتٍ إنعاشية قصيرة الأمد فحسب، بل خارطة طريق كاملة يبدو أنها ليست في متناول يد السلطة الحالية. في ظل التحديات العسكرية التي لا تزال قائمة مع ما تحمله من مخاطر لا يمكن التنبؤ بها. ومن دون ذلك، يظل السيناريو المحتمل عقداً أو أكثر من الركود البنيوي الذي سيعيد تشكيل واقع الكيان اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
الكاتب: غرفة التحرير