في لقاء مغلق داخل القنصلية الإسرائيلية في نيويورك، خاطب الرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مجموعة من المؤثرين الأميركيين على وسائل التواصل الاجتماعي بوصفهم "السلاح الأهم" لتأمين قاعدة الدعم الشعبي لإسرائيل داخل الولايات المتحدة. كان ذلك إعلاناً صريحاً عن تحوّل المنصات الرقمية إلى ساحة حرب موازية للميادين العسكرية. وما بدا في ظاهره تواصلاً ودياً مع شخصيات نافذة رقمياً كان في جوهره جزءاً من سياسة مدروسة: تمويل محتوى موجّه يُعاد إنتاجه بصيغة مؤيدة لإسرائيل داخل المجال الأميركي، من خلال مؤثرين يتلقون مقابلاً نظير توجيه خطابهم لصالح السردية الرسمية.
هذا النمط من "الاستئجار العاطفي" فتح مشهداً جديداً في صناعة الرأي العام، حيث لم يعد التأثير محصوراً في غرف الأخبار أو مراكز الضغط، بل بات يُدار عبر حسابات على تيك توك وإنستغرام ويُقاس بعدد الإعجابات وإجمالي دقائق المشاهدة. ومع ذلك، جاءت نتائج الفعل المعاكس من خارج هذا النسق الممول. فبينما اعتمدت تل أبيب على الانتشار المدفوع عبر حملات علاقات عامة رقمية، صعدت في المقابل رواية فلسطينية غير ممولة، اعتمدت على التوثيق الخام للمعاناة الميدانية: أطفال جوعى يبحثون عن الماء والطعام، أمهات يفتشن بين الركام، وعائلات مسحت بأكملها من السجل المدني.
هذا التناقض بين "السردية المرسومة" و"المشهد الموثَّق" بدأ يُظهر أثره في المؤشرات الاجتماعية. فبحسب استطلاع أجرته صحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا، بات 35% من الأميركيين يميلون إلى التعاطف مع الفلسطينيين مقابل 34% مع الإسرائيليين، بينما فضّل 31% عدم الانحياز أو إعلان التعاطف مع الطرفين بالتساوي. للمرة الأولى منذ عقود، لم تعد الرواية الإسرائيلية قادرة على الحفاظ على تفوقها الرمزي داخل الرأي العام الأميركي، حتى في أوساط كانت تُعتبر تاريخياً من داعميها.
التحول الأكثر حدة ظهر داخل القاعدة الديمقراطية، حيث تراجع التأييد لإسرائيل بصورة ملحوظة، مقابل ثبات نسبي في صفوف الجمهوريين، وإن بنسب أقل من السابق. إلا أن اللافت بأن الانقسام لم يكن حزبيّاً تقليدياً بل في اوساط الجيل الجديد من المستخدمين الرقميين تحت سن الثلاثين، الذين أظهر سبعة من كل عشرة منهم رفضاً لأي مساعدات عسكرية أو اقتصادية إضافية لكيان الاحتلال، بغض النظر عن الانتماء السياسي. هؤلاء لا يشاهدون القنوات الإخبارية ولا يتلقون رسائلهم من الصحف، بل من مقاطع تتنقل على المنصات العمودية بسرعة.
لم تستطع إسرائيل، رغم مواردها التقنية والمالية، إعادة فرض الرواية من الأعلى إلى الأسفل. فمحاولاتها للوصول إلى الجمهور الأميركي عبر الحملات الرقمية المدفوعة ترافقت مع سياسات موازية تعكس ارتباكاً في فهم طبيعة المجال الرقمي، إذ بدلاً من تحسين خطابها، لجأت في غزة إلى استهداف أبراج الاتصالات وقطع الإنترنت، ظناً أن غياب الصورة سيؤدي إلى غياب الرواية. غير أن ما حدث هو العكس: كل محاولة للمنع أعادت تسليط الضوء على ما يُراد إخفاؤه، فتحولت الرقابة نفسها إلى مادة إعلامية مضادة.
في المقابل، استمرت الشبكات الفلسطينية في بث المحتوى رغم المخاطر. مصورون محليون، بعضهم قضى أثناء التغطية، وثّقوا يوميات الحرب من داخل البيوت والمستشفيات والمقابر الجماعية. لم يُدعَ هؤلاء إلى القنصليات ولم يحصلوا على عقود تسويق، لكن تأثيرهم تجاوز ما تنتجه شركات العلاقات العامة المدفوعة، لأن سرديتهم لم تُصنع في المكاتب بل في المناطق المدمرة وتحت القصف وناتج عن شعور بالقهر والخوف والتهديد الوجودي ايضاً.
هذه المعركة الرقمية تظهر أن المشهد الذي تريد إسرائيل ترسيخه يقوم على ثنائية "دفاع مشروع ضد الإرهاب"، بينما المشهد الذي يُعاد بثّه من غزة يقوم على خطٍّ واحد: بشر يُقتلون ويُجَوَّعون أمام الكاميرا. هنا تتعطل اللغة الدبلوماسية وتسقط محاولات التجميل، لأن المنصات باتت لا تنقل الأحداث فقط بل تُصنع فيها الحقيقة.
إن لقاء نتنياهو بالمؤثرين لم يكن خطأً في التقدير، بل كشفاً عن إدراك متأخر بأن شرعية القوة لم تعد تُصاغ في أروقة الكونغرس فقط، بل في مساحة التعليقات تحت فيديو مدته 30 ثانية. السؤال اليوم ليس عمّا إذا كانت إسرائيل ستستثمر أكثر في شراء التأثير، بل عمّا إذا كان التأثير المدفوع ما زال قادراً أصلاً على منافسة الوعي الذي يتشكل خارج سيطرة الدولة والإعلام، حيث لا تحدده البيانات الرسمية بل الأصوات التي تخرج من تحت الأنقاض.
الكاتب: غرفة التحرير