في قلب ما يُسمّى البرامج التربوية الإسرائيلية الموجّهة لليهود حول العالم، يبرز برنامج "المخينا" أحد أدوات هندسة الوعي في كيان الاحتلال والعالم. وهو مشروع أيديولوجي مقنَّع بالثقافة والتعليم، يهدف إلى ربط الأجيال اليهودية في الشتات بالمشروع الصهيوني، ليس على مستوى الهوية الدينية فقط، بل على مستوى الانخراط النفسي والذهني في منظومة الاحتلال، بما تحمله من سرديات القوة والتفوق والعنف المشرعن.
يقدَّم البرنامج في صورته العلنية كسَنة فاصلة بين المدرسة الثانوية والجامعة، ويُعرف باسم Mechina Olamit، أي "التحضيرية العالمية"، وتشرف عليه حركة بني عكيفا الصهيونية بالشراكة مع مؤسسات حكومية مثل وكالة "ماسا" التي أسستها الحكومة الإسرائيلية عام 2004. يدعو البرنامج خريجي المدارس اليهود في أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية إلى قضاء نحو تسعة أشهر في مستوطنات قريبة من القدس، ضمن مزيج من التعليم الديني والتدريب القيادي والخدمة المجتمعية ودروس في "محبة إسرائيل". غير أن جوهر البرنامج يتجاوز كل ذلك، إذ يتضمن إعداداً بدنياً وأسبوعاً كاملاً تحت عنوان "أسبوع الجيش"، يُدرَّس فيه المشاركون اللغة العبرية ومبادئ الانضباط العسكري، والأخلاقيات القتالية، وقيادة الميدان.
بهذا المعنى، يتحوّل التعليم إلى وسيلة لتنشئة جيل يهودي مرتبط عاطفياً ومفاهيمياً بالجيش الاحتلال، حتى وإن لم يلتحق فعلياً بالخدمة. فالفكرة المركزية ليست التجنيد المباشر، بل ترسيخ مفهوم "الانتماء الدفاعي" كركيزة في هوية الفرد. ومن هنا، تكتسب "المخينا" بُعدها السياسي الحقيقي: إنها ليست مؤسسة تعليمية بل معمل لإعادة إنتاج الرواية الصهيونية عبر التعليم الديني–العسكري.
يُغلف هذا المشروع بغطاء تربوي، لكن مضمونه العملي يصب في تكوين شبكة عالمية من الشباب المرتبطين بإسرائيل فكرياً، والمستعدين للدفاع عنها سياسياً، إعلامياً، وربما ميدانياً تحت شعار "الهوية اليهودية الجامعة".
يمثل "المخينا" أداة استراتيجية ضمن منظومة القوة الناعمة الإسرائيلية، التي توازي في فعاليتها أدوات الدبلوماسية والإعلام. فبينما تركز الدعاية التقليدية على تبرير سياسات الاحتلال أمام الغرب، تعمل هذه البرامج على تكوين جمهور صهيوني عضوي داخل المجتمعات الغربية نفسها، يحمل القناعات الإسرائيلية ويعيد ترويجها من موقعه كمواطن غربي. وهذا ما يفسّر الصمت الغربي تجاه مشاركة مئات المواطنين من كندا والولايات المتحدة وأوروبا في صفوف الجيش الإسرائيلي خلال الحرب على غزة، دون أي مساءلة قانونية، في وقتٍ تُجرّم فيه القوانين ذاتها انخراط أي مواطن في حروب خارجية أو تنظيمات أجنبية.
إن ما تفعله "المخينا" هو نقل الصراع من جغرافيا الاحتلال إلى جغرافيا الوعي. فالتجنيد هنا لا يجري في الثكنات، بل في الصفوف الدراسية، وفي رحلات "استكشاف إسرائيل" التي تُنظَّم تحت شعارات القيادة والخدمة والمجتمع. يغادر المشاركون البرنامج وهم مقتنعون بأن الدفاع عن إسرائيل ليس خياراً سياسياً بل واجب أخلاقي، وأن الفلسطينيين مجرد عقبة في طريق "تحقيق المصير اليهودي". بهذه الطريقة، يُعاد إنتاج العنف في صورة "قناعة أخلاقية".
ولا يمكن فصل ذلك عن المشروع الأيديولوجي الذي تأسست عليه الصهيونية الحديثة: صناعة وعيٍ جماعي يُبرّر القوة بوصفها وسيلة للبقاء، ويحوّل الكراهية إلى شكل من أشكال الدفاع الذاتي. فبرامج مثل "المخينا" تُعيد إحياء هذه المعادلة كل عام، حين تزرعها في عقول مئات الشباب من مختلف الجنسيات، ليحملوها معهم إلى مجتمعاتهم، ويغدو كلٌّ منهم سفيراً غير معلن لخطاب الاحتلال.
يعد هذا البرنامج جزء من نظام عقائدي يمدّ الاحتلال بوسائل لتصدير الكراهية الممنهجة ضد الفلسطينيين والعرب. إنها مشروع سياسي بثوب تربوي، يربط بين التعليم والمعسكر، وبين التوراة والسلاح، في محاولة لإنتاج إنسان يهودي عالمي لا يرى في فلسطين سوى حقل اختبار لإيمانه وولائه.