يكشف استطلاع جديد لمعهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب ملامح مرحلة إسرائيلية مأزومة، تتجاوز نتائج الحرب على غزة إلى أزمة ثقة داخلية تطال المؤسسة السياسية والشارع على حد سواء. اذ تتهاوى صورة القيادة السياسية، ويتعمق الشك في جدوى الحرب التي استمرت عامين وانتهت دون نتائج حاسمة، ما يثير تساؤلات حول قدرة إسرائيل على إعادة بناء جبهتها الداخلية واستعادة تماسكها الداخلي بعد أحد أطول وأعنف الصراعات في تاريخها.
تظهر الأرقام التي وردت في استطلاع أجراه معهد الدراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب وسنذكرها تباعاً، حجم الهوة بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية تكشف عن خلل بنيوي في العقد الاجتماعي الذي طالما اعتمدت عليه إسرائيل لتبرير قوتها: تفوق الجيش كرمز أمني يعوّض هشاشة السياسة. اذ أن الحرب لم تُترجم إلى شعور بالأمان الشخصي أو بالانتصار القومي، بل إلى اعتماد أكبر على القوة كأداة تعويض نفسي وجماعي.
الحرب على غزة، التي وُصفت في إسرائيل بأنها "الأطول والأكثر كلفة"، تركت أثراً عميقاً في المزاج العام. نصف الإسرائيليين يرون أن الحرب انتهت دون انتصار لأي طرف، وقرابة الثلث فقط يعتقدون أن إسرائيل حققت النصر. أما اتفاق وقف اطلاق النار فيحظى بدعم 76%، لكنه لا يبعث على الطمأنينة؛ فستة من كل عشرة إسرائيليين لا يعتقدون أنه سيمنحهم سنوات من الهدوء. وتُظهر هذه الأرقام مفارقة واضحة: الرغبة في إنهاء الحرب لا تقابلها ثقة بسلام دائم، ما يعني أن الشارع الإسرائيلي يعيش هدنة داخلية مؤقتة لا استقراراً استراتيجياً.
أما في البعد السياسي الداخلي، فيطالب ثلاثة من كل أربعة إسرائيليين بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في الحرب، وهي نسبة تكشف استعداداً كبيراً لمراجعة السردية الرسمية، بما يشمل مسؤولية القيادة العسكرية والسياسية عن إخفاقات السابع من أكتوبر وما تلاه. كما يؤيد أكثر من نصف الإسرائيليين تبكير موعد الانتخابات العامة، مع انقسام واضح بين معسكري المعارضة والائتلاف؛ فبينما يطالب 78% من معارضي نتنياهو بانتخابات مبكرة، لا يتعدى المؤيدون لذلك في الائتلاف 16%. هذه الفجوة تعكس انقساماً سياسياً حاداً لم يعد خافياً على الرأي العام ولا على المؤسسات الأمنية التي تخشى من ترجمته إلى اضطرابات داخلية تهدد "المناعة القومية" الإسرائيلية.
يبدو الشارع الإسرائيلي أيضاً منقسماً حول المسائل الجوهرية بما يتعلق بمستقبله. 68% يرفضون إقامة دولة فلسطينية بشكل قاطع، مقابل 19% يقبلونها بشروط. وهي أرقام تشير إلى تصلّب المزاج الإسرائيلي وتراجع أي أفق سياسي للتسوية. في الوقت ذاته، يعارض 68% إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ما يعكس تصاعد التوتر بين "الدولة العسكرية" التي تريد تعبئة الجميع و"الدولة الدينية" التي تطمح إلى استثناء جماعاتها من هذا الواجب.
على الصعيد الخارجي، يُظهر الاستطلاع أن نصف الإسرائيليين يعتقدون أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يدعم إسرائيل فقط حين يخدم ذلك مصالحه الخاصة، مقابل 34% يرونه حليفاً ملتزماً بأمنها. هذا التحول في النظرة إلى الحليف الأميركي يشير إلى بداية تراجع الثقة بالغطاء الأميركي المطلق الذي اعتادت عليه تل أبيب، في ظلّ إدراك متزايد بأن الدعم الغربي مشروط ومصلحي، وليس ضمانة أمنية ثابتة. في حين يخشى 60% من انهيار النسيج الاجتماعي في اليوم التالي للحرب.
بالتالي، فإن القراءة المتأنية لهذه الأرقام تشير إلى أن إسرائيل تواجه تصدعاً داخلياً بنيوياً لا يقل خطراً عن التهديدات الأمنية الخارجية. فالكيان التي لطالما قدّم نفسهه بوصفه "وحدة قومية متماسكة في وجه العدو" يبدو اليوم منقسماً حول مفهوم النصر الذي يروج له رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بل وترامب أيضاً، وعلى طبيعة العلاقة مع واشنطن والعالم. الاستطلاع لا يقيس آراء فحسب، بل يرسم خريطة أزمة داخلية عميقة تضع إسرائيل أمام سؤال جديد: كيف يمكنها الحفاظ على أمنها الخارجي فيما ثقتها بذاتها تتآكل من الداخل؟
الكاتب: غرفة التحرير