تشكل الهولوكوست في الوعي الغربي مثالاً راسخاً قوياً على كيفية تحول جريمة تاريخية إلى سردية محصنة اعلامياً وسياسياً، بل واستخدامها كمرجعية أخلاقية واستراتيجية استخدمت لتنفيذ مشاريع كبرى. بعد الحرب العالمية الثانية، لم ينجح أي خطاب سياسي أو إعلامي في زحزحة هذه الرواية عن مكانتها المركزية، بفضل توثيق واسع، حماية قانونية، ودمجها في الهوية الأوروبية الحديثة.
اليوم، يجري الحديث عن إبادة الشعب الفلسطيني في غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، وهي إبادة لا تقل فظاعة عن جرائم التاريخ الموثقة، بل هي الاكبر في التاريخ الحديث، لكنها تواجه محاولات طمس وتشويه من الإعلام الغربي، الذي يقدّم الرواية الإسرائيلية على أنها دفاع عن النفس، بينما تُغفل مقتل آلاف المدنيين وتشريد مئات الآلاف تحت قصف ممنهج، وتجويع الاطفال حتى الموت وقتلهم أثناء سعيهم للحصول على الماء.
إذا كانت الهولوكوست تحولت إلى ذاكرة لا يمكن الطعن فيها، فإن غزة ستصبح رمزاً دائماً في الذاكرة العربية والإسلامية وذاكرة شعوب العالم بعيداً عن الارادة المغايرة لأدوات الهيمنة الغربية في المنطقة، بعد التوثيق المكثف للشهادات والصور والمجازر. وستسجل هذه الذاكرة، مثلما سجلت أوروبا: مَن وقف مع الشعب الفلسطيني ومَن تخاذل، مَن ساهم فعلياً ومَن اكتفى بالمواقف الشكلية أو الصمت.
أكثر المفارقات حدة تتجلى في شخص أحمد الشرع الذي كان يعرف باسم أبو محمد الجولاني، القائد السابق لجبهة النصرة، الذي لم يهاجم إسرائيل ولم يذكر المقاومة في أي تصريحاته الأخيرة. على العكس، وضع نفسه عملياً في خدمة المشروع الأميركي الاسرائيلي في المنطقة، من خلال علاقاته مع مسؤولين دوليين وإقليميين ومحاولاته لتثبيت موقعه السياسي ضمن شبكة نفوذ تدعم مصالح واشنطن في سوريا. هذا السلوك يكشف كيف انقلب الحال: فصيل كان يُعرّف نفسه جهادياً سابقاً يتحول اليوم إلى أداة سياسية لصالح المشروع الأميركي، بينما تُباد غزة "السُّنيّة" على مرأى العالم وعلى شاشات التلفزة.
هذا الغياب عن نصرة الشعب الفلسطيني حتى بتصريحات رافضة للابادة واستمرار الحرب، يصبح أكثر وضوحاً إذا وضعنا في الاعتبار استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمساحات شاسعة من الاراضي السورية تتجاوز الـ 10 آلاف كيلومتر مربع، وما يجري من نقاشات ولقاءات بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، التي تعكس ترتيباً سياسياً يخدم مصالح الشرع نفسه وليس مصلحة دمشق أو القضية الفلسطينية.
هذا الغياب لا يقتصر على دمشق وحدها. فالمجمل يظهر أن غالبية الدول الإسلامية، رغم امتلاكها موارد سياسية وعسكرية، لم تفعل شيئاً يوقف المجازر أو يخفف وطأتها. باستثناء لبنان واليمن وإيران، بقيت المواقف الشكلية أو البيانات الإعلامية هي الغالب، بينما يسجل التاريخ صمتاً موجعاً تجاه إبادة الفلسطينيين.
في الواقع فإن القضايا تبقى حية في ذاكرة الشعوب، حتى لو أرادت الأنظمة غير ذلك. وعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي تصرلف لتشويه السردية الفلسطينية واخراجها من أحقيتها ونزع صفة الانسانية عنها لتصبح حدثاً عابراً، فإن ذاكرة الشعوب الموثقة هي من تكتب التاريخ، ولذلك، سيكون طوفان الأقصى وما تلاه من إبادة إلى مرجعية مركزية في الهوية العربية والإسلامية، توضح الجهة التي وقفت والجهة التي تخلت عن مسؤوليتها.
في المقابل، سيبقى النظام السوري وأحمد الشرع تحديداً في موقع الإدانة التاريخية، لأنهما لم يقدما أي فعل، بل على العكس، أحدهما يسعى لتثبيت موقعه السياسي في خدمة الهيمنة الأميركية، فيما الشعب الفلسطيني يُباد. وهكذا، تصبح غزة رمزاً للعدالة التي لم تُنفذ، وصوتاً حياً للذاكرة التي ستسجّل النفاق الدولي والتواطؤ المستمر. ومرة أخرى، فإن التاريخ سيوثق ذاكرة الشعوب الشاهدة على ما جرى، وأن هناك مَن لم يهن عليه الدم الفلسطيني وبين مَن ساهم في سفكه.
الكاتب: غرفة التحرير