تُظهر العقوبات الأميركية الأخيرة على ثلاث من أبرز منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية – المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، مركز الميزان، ومؤسسة الحق – أن واشنطن باتت مستعدة لاستخدام أدواتها المالية والسياسية ليس فقط لحماية "إسرائيل" من المساءلة، بل أيضاً لكتم أي صوت يسعى إلى كشف جرائمها. هذه السياسة ليست جديدة، بل هي جزء من نهج تاريخي يضع أمن الكيان فوق أي اعتبار قانوني أو إنساني. فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي خلّف أكثر من 63 ألف شهيد وأجبر معظم أهالي القطاع على النزوح، التزمت الإدارة الأميركية بالدفاع عن "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً، مع تقديمها الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن ومنع أي محاسبة حقيقية.
الدعم الأميركي لم يعد يقتصر على توريد السلاح أو عرقلة القرارات الأممية، بل تطوّر إلى ملاحقة قانونية ومالية تستهدف المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، بما يكرّس صورة الولايات المتحدة كطرف في الجريمة لا مجرد حليف متحيّز.
التعدي الأميركي على القانون الدولي
لم تكن هذه المرة الأولى التي تتجاوز فيها واشنطن القانون الدولي من أجل حماية الاحتلال. فالتاريخ القريب مليء بالأمثلة على تدخلات أميركية سافرة لتعطيل أي مسار قانوني قد يطال تل أبيب. إدارة دونالد ترامب ذهبت أبعد من ذلك حين فرضت عقوبات مباشرة على قضاة المحكمة الجنائية الدولية والمدعية العامة السابقة فاتو بنسودا عام 2020، بعد قرارها فتح تحقيق بجرائم حرب محتملة ارتكبتها القوات الأميركية في أفغانستان، و"إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كما أن الولايات المتحدة لم توقّع على نظام روما الأساسي المؤسِّس للمحكمة، تماماً كما فعلت "إسرائيل"، لتفادي أي مساءلة قانونية. هذه الاستراتيجية تقوم على ازدواجية واضحة: واشنطن تُطالب بمحاسبة خصومها – كما في حالة روسيا وأوكرانيا – لكنها تسعى في المقابل إلى تعطيل أو تقويض أي تحقيقات عندما يتعلق الأمر بها أو بحلفائها المقربين. إن تجاوز القانون الدولي بهذا الشكل يكشف أن النظام العالمي القائم على "قواعد" ليس إلا منظومة انتقائية تصوغها واشنطن بما يتناسب مع مصالحها، حتى لو كان الثمن هو شرعنة جرائم ضد الإنسانية.
استهداف المؤسسات الفلسطينية
ما جرى مع المنظمات الحقوقية الفلسطينية يؤكد هذا النهج. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، قدّمت هذه المؤسسات الثلاث طلباً إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الهجمات الإسرائيلية على المناطق المكتظة بالسكان في غزة، وحصار القطاع، وعمليات التهجير القسري التي مورست بحق المدنيين. هذه الخطوة الحقوقية كانت تهدف إلى فتح مسار قضائي دولي مستقل يضع "إسرائيل" أمام المحاسبة القانونية.
لكن بعد عام واحد فقط، ومع إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت جاء الرد الأميركي بمعاقبة المنظمات الفلسطينية نفسها. العقوبات استهدفت مصادر تمويلها وقيّدت حركتها الدولية، لتتحول الضحية إلى متهم.
هذا القرار الأميركي جاء في وقت حساس، حيث صوّتت أكبر جمعية أكاديمية متخصصة في دراسات الإبادة الجماعية على أن الأوضاع في غزة تستوفي الشروط القانونية لتعريف "الإبادة". ما يعني أن واشنطن لم تكتفِ بإنكار توصيف الجريمة، بل لجأت إلى تجريم من يحاول إثباتها بالأدلة القانونية.
ازدواجية معايير وشرعنة للجريمة
إن العقوبات الأميركية تعكس ازدواجية المعايير بأوضح صورها فمن جهة، تدعو واشنطن لمحاسبة خصومها على جرائم الحرب، وتصف ما يجري في أوكرانيا "بالحرب المتوحشة"، ومن جهة أخرى تجرّم المنظمات الحقوقية الفلسطينية لأنها لجأت إلى الآليات نفسها لمحاسبة الاحتلال. هذه السياسة تُقوّض فكرة العدالة الدولية برمّتها. إن الولايات المتحدة، عبر هذه الخطوات، لا تدافع عن إسرائيل فحسب، بل تكون شريكاً مباشراً فيما يجري في غزة.
إن فرض العقوبات على المؤسسات الحقوقية الفلسطينية لم يكن مجرد إجراء إداري، بل رسالة إلى الجهات الحقوقية أن "أي محاولة لتوثيق أو محاسبة إسرائيل ستواجه بالقمع والعزل" علماً أن ترامب يُمني نفسه بجائزة نوبل كـ "رجل للسلام" رغم كل ما يرعاه من جرائم. بهذا المعنى، فرض العقوبات واستخدام هذا النهج مؤشر على مسار تآكل مكانة واشنطن. فكلما واصلت الولايات المتحدة تعطيل العدالة من أجل حماية "إسرائيل"، كلما سرّعت انتقال الشرعية إلى قوى ومؤسسات أخرى تبحث عن نظام دولي أكثر توازناً. وبذلك، تكون واشنطن تخسر تباعاً موقعها "كمرجعية" في العالم.
الكاتب: غرفة التحرير