تظهر التجربة الفلسطينية المعاصرة، لا سيّما في قطاع غزة، أنّ الحروب لم تعد مجرد أحداث عسكرية تخلف دماراً اقتصادياً بوصفه نتيجة ثانوية للصراع، بل تحوّلت إلى أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الواقعين
الاقتصادي والسياسي على نحو يخدم أهدافاً بعيدة المدى.في هذا السياق، نقدم إليكم دراسة أعدّها د. رائد حلس بعنوان "اقتصاد اللّادولة في مرحلة ما بعد الحرب: سياسات التفكيك المنظّم للبنى الاقتصادية في غزة كأداة للهيمنة السياسية" تتناول واحدة من أخطر نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي تحويل الاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد مقاوم إلى اقتصاد تابع ومُدار خارجياً.
أولاً: تحطيم مقومات السيادة الأساسية:
اتبعت "إسرائيل" سياسة مركّبة لضرب ركائز الكيان الاقتصادي الفلسطيني، بدءاً من السيطرة على الحدود والمعابر لفرض عزلة جغرافية واقتصادية خانقة، وصولاً إلى تدمير البنية التحتية للمياه والطاقة والصحة والنقل، بما حوّل غزة إلى منطقة منكوبة تعاني من شلل شبه كامل في الخدمات. كما أدت هذه الحرب إلى شلّ النظام المالي والإداري عبر استهداف الكفاءات الوطنية، وقطع إيرادات المقاصة، وتعطيل القطاع المصرفي، وهو ما جعل إدارة الشؤون الاقتصادية مرتهنة للاحتلال وللمساعدات الأجنبية.
ثانياً: إعادة هندسة الاقتصاد في ضوء "خطة ترامب":
ترى الدراسة أنّ خطط إعادة الإعمار، خصوصاً الخطة الأمريكية المعروفة بـ"خطة ترامب"، ليست سوى مشاريع هندسة سياسية واقتصادية جديدة تهدف إلى خلق نموذج "اقتصاد اللادولة"، أي اقتصاد يعتمد على التمويل الخارجي وتُديره مؤسسات دولية، مع تغييب الفاعل الفلسطيني الحقيقي. فالمقترحات الأمريكية تتحدث عن إنشاء مناطق استثمارية وسياحية تحت إشراف دولي، و"مجلس سلام" برئاسة أمريكية يدير المعابر والحدود.
هذه الرؤية، بحسب الباحث، تعيد إنتاج الاحتلال بأدوات مدنية، وتحوّل الإعمار إلى وسيلة للسيطرة بدل أن يكون مدخلاً للتحرر. في المقابل، تطرح الدول العربية خطة بديلة لإعادة الإعمار بقيمة 53 مليار دولار تُدار فلسطينياً، بما يضمن بقاء السكان في أرضهم ويمنع التهجير القسري.
ثالثاً: النتائج وسيناريوهات المستقبل:
تخلص الدراسة إلى أنّ الحرب والسياسات المصاحبة لها تهدف إلى تحويل غزة من "قضية سياسية" إلى "مشكلة إنسانية". فالاعتماد شبه الكامل على المساعدات، واستخدام التجويع كسلاح حرب، جعلا السكان رهائن للأجندات الخارجية، في حين تراجع مفهوم السيادة الاقتصادية إلى حدّ العدم.
وترسم الورقة ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- سيناريو الهيمنة: حيث تكرّس عملية الإعمار التبعية البنيوية ويُعاد تصميم الاقتصاد الفلسطيني ضمن منطق السوق والخصخصة.
- سيناريو التنازع: وفيه يتصادم النفوذ الأمريكي والإسرائيلي مع الموقفين الفلسطيني والعربي حول إدارة الإعمار، مما يخلق حالة فوضى اقتصادية وسياسية.
- سيناريو الصمود: وهو الخيار الاستراتيجي الذي يدعو إليه الباحث، ويتمثل في بناء اقتصاد وطني مستقل قائم على العدالة الاجتماعية والسيادة على الموارد، ورفض أي خطط خارجية مشروطة.
ترى الدراسة أنّ تجاوز واقع "اقتصاد اللادولة" يتطلّب صياغة رؤية وطنية شاملة لإعادة الإعمار والتنمية، تُدار فلسطينياً وتربط بين التحرر والسيادة الاقتصادية. فإعادة البناء الحقيقية لا تبدأ بالإسمنت، بل باستعادة القرار الوطني على الموارد والحدود والإنسان.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات