شكّلت تظاهرات "لا للملوك" التي عمّت المدن الأميركية خلال عطلة نهاية الأسبوع محطة لافتة في المسار السياسي الداخلي للولايات المتحدة. جاءت الاحتجاجات تتويجاً لتراكمات سياسية واجتماعية انفجرت في لحظة تشهد فيها البلاد إغلاقاً حكومياً يقترب من أسبوعه الرابع، وتراجعاً في الثقة بالمؤسسات التشريعية.
خرج المحتجون بالملايين في مدن كبرى مثل نيويورك وواشنطن ولوس أنجلوس وشيكاغو، إضافة إلى مئات البلدات الأخرى. اللافت أن حجم المشاركة جاء أوسع مما توقعته حتى القوى المنظمة، ما يعكس أن الحراك تجاوز حدود التعبئة الحزبية التقليدية ودخل في نطاق الاعتراض المدني المفتوح على ممارسات الرئاسة الحالية. أسباب التظاهر تعدّدت: تطبيقات ترامب المتشددة في ملف الهجرة، قراراته الجمركية، تقليص الإنفاق الفدرالي، إدخال الحرس الوطني في المدن، وتوسيع الصلاحيات التنفيذية خارج الأطر المتعارف عليها. يضاف إلى ذلك الغضب من الإغلاق الحكومي المستمر الذي بات يؤثر على مئات آلاف الموظفين ويهدد البرامج الاجتماعية التي تشكّل إحدى ركائز القاعدة الناخبة للحزب الديمقراطي، وسياساته الجمركية التي اتضح أنها تحمل أسباب فشلها.
رغم الزخم الشعبي، يتعامل الديمقراطيون مع هذه التظاهرات بوصفها فرصة تحتاج إلى هندسة سياسية دقيقة أكثر مما هي انتصار ميداني. الحزب يدرك أن خسارته المؤسسية بعد انتخابات العام الماضي وضعته خارج السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يجعل الشارع إحدى الوسائل القليلة المتاحة للضغط وإعادة بناء صورة مفقودة. لكن الأزمة لا تتعلق فقط بغياب السلطة، بل أيضا بانقسام داخلي عميق حول كيفية تحويل الاعتراض الشعبي إلى صيغة سياسية قابلة للاستثمار الانتخابي.
القيادات الديمقراطية لا تخفي أنها ترى في هذا الحراك مناسبة للعودة إلى واجهة النقاش الوطني، لكنها قلقة من أن يتحول الشارع إلى خصم يفرض عليها سقفاً يصعب الالتزام به في أي تسوية لاحقة داخل الكونغرس. الاحتجاج بهذه الكثافة يساهم في خلق مناخ ضاغط على الحزب، لكنه في الوقت ذاته يرفع كلفة التراجع أو التفاوض مع إدارة دونالد ترامب، خاصة في ملف الإغلاق الحكومي. فالديمقراطيون يرفضون منح تمديد قصير للإنفاق الفدرالي بلا اتفاق على دعم التأمين الصحي للفئات الفقيرة، فيما يحاول ترامب استخدام الإغلاق كورقة لفرض خفض إضافي في القوة العاملة الحكومية وتركيز الضغط على الولايات ذات الثقل الديمقراطي.
في المقابل، اختار الجمهوريون استراتيجية الاستهزاء والإنكار بدل الدخول في نقاش حول مضمون الاعتراض. تعليق البيت الأبيض المختصر على التظاهرات جاء بصيغة "مَن يهتم؟"، في تعبير مقصود يختزل تعامل الإدارة مع خصومها: لا اعتراف بشرعية الاحتجاج ولا اعتبار لحجم التعبئة. ترامب نفسه نشر مقاطع مصورة ساخرة تُظهره بتاج ملكي أو يسقط نفايات على المتظاهرين.
الانقسام هنا لا ينحصر في التقييم السياسي، بل يمتد إلى تعريف الشرعية؛ فأنصار ترامب يعتبرون أن فوزه الانتخابي يمنحه تفويضاً لتجاوز المؤسسات حين يلزم، وأن الاحتجاجات ليست سوى ارتداد من معسكر لم يقبل بالخسارة. أما الديمقراطيون فيسعون إلى تحويل التظاهرات إلى ورقة ضغط انتخابية يمكن البناء عليها في الاستحقاقات المحلية المقبلة وفي الانتخابات النصفية.
الإغلاق الحكومي يمنح المعارضة فرصة لتأطير الاحتجاج ضمن معركة دستورية وأخلاقية حول حدود السلطة التنفيذية. لكن الحسابات ليست بهذه البساطة. فالأضرار الناتجة عن الإغلاق تصيب شرائح قريبة من الديمقراطيين، فيما يحاول الجمهوريون تصوير الأزمة على أنها نتيجة تعنّت الأقلية في مجلس الشيوخ. ومع ازدياد الضغط الاجتماعي، يصبح الحزب أمام خيارين أحلاهما مُرّ: إما الاستمرار في المواجهة وخسارة قطاعات متضررة، أو القبول بتسوية قد تُفسّر كتنازل أمام إدارة تسعى لتكريس سلطة رئاسية متقدمة على المؤسسات.
تُظهر التظاهرات أن هناك طاقة احتجاجية كامنة يمكن أن تتحول إلى رافعة سياسية، لكن تحويلها إلى مسار مستدام يتطلب أكثر من التعبئة العاطفية. فغياب رؤية برلمانية موحّدة لدى الديمقراطيين، واستمرار خطاب الاستخفاف لدى الجمهوريين، يُنذران بأن المشهد مرشح لمزيد من الاستقطاب والانقسام الداخلي.