الثلاثاء 02 أيلول , 2025 03:47

تفكك الدولة السورية: من العقد الاجتماعي إلى هندسة الفوضى

خريطة سوريا والرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد

حين تسلّم حافظ الأسد السلطة رسمياً مطلع السبعينات، لم يكن ذلك مجرد انقلاب عسكري أو تحول في القيادة السياسية، بل تأسيسًا لتحالف اجتماعي واسع ضمّ الطبقات الريفية المهمّشة، مع البرجوازية المدنية، والشرائح الوسطى. شكّل هذا التحالف ما يمكن تسميته بـ"العقد الاجتماعي الجمهوري"، الذي منح الدولة شرعية استمدتها من الوظيفة الاجتماعية لا من الشعارات فقط، وقدرة على الاستمرار لعقود، لا يمكن تفسير تلك القدرة بالمؤامرة الطائفية أو الانقلاب العسكري ما يمكن أن يوضح كيف تم استلام السلطة لكنه لا يفسر كيف بنى الأسد نظامًا امتد طويلاً في بلد كان معدل الانقلابات العسكرية فيه مرة كل ستة شهور قبل الأسد.

كانت أدوات الدولة في تثبيت هذا العقد هي: التوظيف العام لكل خريج، دعم السلع الأساسية، مجانية التعليم والصحة، ودعم المواد الأساسية والتجنيد الوطني. وقد نجح هذا النموذج لعقود، لكنه بدأ بالتآكل لاحقًا تحت وطأة ضغوط إقليمية وعالمية خانقة.

وقد أفرز هذا العقد الاجتماعي زمن حكم الأسد الأول ما يمكن تسميته بـ"فلْحنة الدولة" كما يقول الباحث حنا بطاطو-أي بروز نخب من أصول فلاحية في مفاصل السلطة- وهي عملية اجتماعية أفضت إلى استقرار نسبي داخل بنية الدولة–المجتمع.

الانفجار الديمغرافي والضغوط البنيوية

مع بداية الألفية الثالثة، بدأت الدولة السورية تواجه تحديات ديمغرافية واقتصادية حادة نتيجة محدودية مواردها مقارنة بكلفة ذلك التحالف الذي لم يقتصر على الفلاحين والعمال كما هو في الدول الاشتراكية، بل امتد للنخب التجارية المدنية بغية ضمان ولائها أو على الأقل حيادها السياسي مما جعله أكثر استنزافا لموارد الدولة، عدا عن كلفة الإنفاق العسكري في دولة يحدها الكيان الصهيوني العدواني: الريف السوري، المستفيد الأول من برامج الرعاية، شهد واحدة من أعلى معدلات الزيادة السكانية في العالم العربي. لكن مع تقلّص قدرة الدولة على التوظيف، ودخول مئات آلاف الشباب إلى سوق العمل سنويًا، حينها بدأت التناقضات البنيوية تطفو على السطح.

رغم تسجيل سوريا معدلات نمو اقتصادي مرتفعة في الفترة بين 2005–2010، فإن هذا النمو لم يكن كافيًا لامتصاص الضغط السكاني والطلب الاجتماعي على الوظائف والدعم. ورغم أن التحالف بين الدولة والتجار ظل قائمًا، إلا أن قدرته على استيعاب الأطراف الهامشية بدأت تضعف.

الزلزال العراقي وارتداداته: الطائفية كأداة استعمارية

مع غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، لم يكن الهدف فقط تدمير جيش أو تغيير نظام، بل إعادة تشكيل المنطقة على أسس ما قبل وطنية: طائفية، إثنية، ومناطقية.

كان هذا الغزو بمثابة زلزال جيوبوليتيكي امتدت ارتداداته إلى سوريا ولبنان وفلسطين. فقد أدركت القوى المعادية لمحور الاستقلال العربي أن النسيج الاجتماعي في هذه الدول واحد إلى حد كبير، وأن تفجيره من الداخل هو المدخل الأمثل لضرب مناعة المجتمعات، دون الحاجة إلى حرب مباشرة.

لقد كانت سوريا هدفًا مباشرًا لهذا المسار، ليس فقط لموقعها الجغرافي، بل لدورها المركزي في محور المقاومة، ورفضها للهيمنة الأميركية–الإسرائيلية.

الحرب السورية كنموذج لحروب الجيل الحديث

ما جرى في سوريا منذ عام 2011 لم يكن "ثورة"، بل كان -وفق المعايير العسكرية والسياسية الحديثة-حربًا هجينة شاملة تقودها قوى خارجية عبر أدوات غير تقليدية:

1. دعم واسع النطاق لجماعات مسلحة مصنّفة إرهابية دوليًا.

2. ماكينة إعلامية عالمية ضخمة أنتجت سرديات موجّهة وفجّرت التناقضات.

3. تحريك عوامل الهوية والانتماء لإذكاء الصراع الداخلي.

4. فرض عقوبات اقتصادية منهِكة عطّلت قدرات الدولة على تقديم الخدمات الأساسية.

5. قصف جوي انتقائي للمنشآت العسكرية والمدنية، لإدامة عدم الاستقرار.

لقد اعترف وزير الخارجية القطري السابق، الشيخ حمد بن جاسم، أن دول الخليج أنفقت قرابة 2 تريليون دولار بهدف إسقاط الدولة السورية، وصرّح بأنهم قاموا بذلك بتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة.

الإنسان المركّب: رفض التفسير الأحادي

وفق رؤية الدكتور عبد الوهاب المسيري، فإن الإنسان ظاهرة مركّبة لا يمكن فهمها من منظور أحادي (اقتصادي أو سياسي فقط)، بل عبر فهم شبكة الرموز والتراكمات الثقافية والتاريخية التي تشكّله.

ولهذا، فإن ما جرى في سوريا لم يكن مجرد تفجّر لأزمة داخلية، بل نتيجة تلاقي مشروع خارجي عدواني مع ثغرات وتناقضات اجتماعية داخلية تم تضخيمها عمداً.

لقد استخدم الغرب في سوريا كل أدوات حروب الجيل الجديد: الفتنة، الحرب النفسية، تفكيك المؤسسات، العقوبات، واحتكار السردية الإعلامية.

حرب كونية على دولة مستقلة

ما شهدته سوريا لم يكن سوى أقسى تعبير عن إرادة الخارج في إعادة تشكيل الشرق العربي بما يناسب مصالح الهيمنة. وكانت الحرب السورية المثال الأكثر تطرفًا على استراتيجية "التفجير من الداخل" التي تتبناها الولايات المتحدة في مواجهة أي دولة مستقلة.

فقد ثبت أنه لا حاجة للغزو المباشر إذا كان بالإمكان تفجير التناقضات الداخلية، ضخ السلاح، توجيه الإعلام، وشن العقوبات الاقتصادية.


الكاتب: غيلان الدمشقي




روزنامة المحور